ماذا بعد طرد الأئمة؟

TT

الجدل مستعر حول جريمة الشاب محمد مراح، الذي أراد أن يجعل فرنسا «تجثو على ركبتيها». سخونة الحملات الانتخابية لا تساعد على تجاوز ما ارتكبه هذا الفرنسي (23 عاما) من أصل جزائري بحق سبعة من الأبرياء. الأصوات التي نادت مسلمي فرنسا باتخاذ موقف موحد تجاه جريمتي «تولوز» و«مونتبان» لقيت صداها، ودعا «اتحاد المنظمات الإسلامية» في فرنسا إلى مظاهرة للاحتجاج ضد «التطرف الديني»، والتبرؤ من مراح وأمثاله. لكن قبل المظاهرة، هناك المؤتمر الذي مُنع ستة من علماء الدين المعروفين في العالم العربي من حضوره. المسألة لم تنته عند حدود المنع، فقد وجه ساركوزي رسالة إلى رئيس «اتحاد المنظمات الإسلامية»، يحذره فيها من أي خطابات تحض على «العنف»، و«الحقد» و«معاداة السامية» خلال هذا المؤتمر.

مشكلة تعايش المسلمين مع الفرنسيين بشكل خاص وفي أوروبا عموما كانت موجودة قبل تنظيم القاعدة، الذي تدرب في صفوفه محمد مراح، ويبدو أنها لن تنتهي بمظاهرة للمسلمين يعلنون من خلالها رفضهم للتطرف، أو نشرهم لبعض المقالات المهدئة في الصحف. فإذا كان المسلمون أنفسهم، وفي بلدانهم، باتوا يرفعون الصوت تخوفا من الفكر الإخواني والسلفي، وما يمكن أن يجره عليهم من قمع للحريات أو حرف للمسارات، فكيف بأوروبا التي يعيش فيها ما يزيد على أربعين مليونا من المسلمين؟

ومن دون المد الإسلامي وقبله، فإن أولاد المهاجرين في علاقتهم مع بلدان الهجرة يختزنون قضايا مركبة وشديدة التعقيد، أسهمت في تأجيجها فرنسا، كما لم يساعد المسلمون أنفسهم على تذليل عقباتها.

محمد مراح نموذج يستحق الدراسة، وإن قيل إنه متطرف لا يشبه مهاجرين آخرين. فهو من بيئة فقيرة، لعائلة مفككة، ترعرع في الشوارع، وكان على اتصال مع متطرفين، وتغذى حقده من الفراغ والهامشية. وفي مثل هذه الظروف ثمة مئات من أبناء المهاجرين. وهذا لا يعني أنهم سيتحولون جميعا إلى قتلة، لكن العديد من أبناء الضواحي الفرنسية الذين عانوا ظروف محمد عبروا، ولو بصوت خفيض ومن دون التصريح بأسمائهم، عن تعاطفهم معه، ولم يبدوا أسفا على موت الضحايا، وهو أمر يطرح أسئلة صعبة، حول مستقبل العلاقة بين مسلمين يقدرون بنحو ستة ملايين، وما تبقى من الفرنسيين.

صحيح أن مراح قتل، بدم بارد، من العرب ما يوازي اليهود، لكنه قال إنه «مجاهد وينتمي إلى (القاعدة) ويرغب في الانتقام للأطفال الفلسطينيين ومن الجيش الفرنسي بسبب انتشاره في أفغانستان». وقال مراح أيضا بحسب النائب العام الفرنسي إنه كان «يسعى لمعاقبة فرنسا بسبب إصدارها قانون حظر النقاب». أما رفاق مراح في الضاحية التي نشأ فيها فعبر بعضهم عن خجله من الانتماء إلى «بلد لا يذرف دمعة على أطفال غزة، فيما هو يقيم الدنيا ولا يقعدها لموت أربعة يهود». في المقابل كتب بعض اليهود عن الحرج الذي شعروا به، بعد أن نُقل ثلاثة من بين الضحايا اليهود إلى إسرائيل ليدفنوا في القدس. وتساءل أحدهم «ألم يحن الوقت كي نقرر هل نحن فرنسيون أم إسرائيليون؟».

هذا كله يظهر كم أن العلاقات معقدة ومركبة، وكيف أن ما يحدث في أفغانستان أو باكستان، أو غزة، يمكن أن يصبح قضية لشبان لم يجدوا مكانة لهم أو هوية في البلد الذي ولدوا فيه ولا يعرفون غيره.

ثلاثة أئمة إضافة إلى ناشطين إسلاميين تم طردهم من فرنسا. وألقي القبض على عناصر من جماعة سلفية تدعى «فرسان العزة» بتهمة حيازة أسلحة والتدبير لعمليات خطف. من رأى صور هؤلاء الفرسان، أثناء مظاهراتهم بملابسهم السوداء الأفغانية وكوفياتهم في قلب عاصمة الديجور، لا بد أنه سيتساءل إن كان اندماجهم ممكنا ولو بعد مائة سنة في باريس، أم لا، علما بأن هذه الجماعة عرف عنها استعراضيتها الفاقعة في مظاهراتها وملابسها، وإن استخدمت عبارات تهديدية في خطاباتها.

تدفع فرنسا ثمن تاريخها الاستعماري، ويدفعه معها بعض الشبان الذين تاهوا بين ثقافتين، جعلت إسرائيل البون بينهما شاسعا والهوة ساحقة. ففرنسا هي التي استقدمت عشرات آلاف الجزائريين مطلع القرن الماضي ليعملوا في مصانعها، ثم جلبت آخرين كمجندين إجباريا في صفوف جيشها لتقاتل بهم أعداءها، وعادت واستقدمت المزيد من أهل المغرب العربي، بعد الحرب العالمية، لبناء ما تهدم ولرفع شأن اقتصادها، لتعود وتستعين بمن يريد منهم العمل في فترة زهوها. وحتى الستينات من القرن العشرين كانت موجات المهاجرين العرب تتدفق باستمرار، ليصبح لم شمل الأسر، والانضمام إلى الأقارب، حتميا، ويفاقم من عدد المسلمين المهاجرين، بشكل متصاعد.

الأمر لم يتوقف هنا، فبؤس الأنظمة العربية طرد الناس قسرا من بلدانهم، ولا يزال يدفع بهم إلى الهجرة. مصافي السفارات التي تفلتر المسافرين رغم ضيق ثقوبها ليست قادرة على منع وصول المزيد من المهاجرين.

الوضع يتفاقم مع الثورات العربية، والتطرف يتزايد بعد انهيار أنظمة أقامت مجدها على قمع الإسلاميين واضطهادهم. وبؤس المهاجرين في فرنسا سيتزايد هو الآخر بسبب الظروف الاقتصادية المقيتة هناك.

الحل لن يكون بخطابات انتخابية نارية وبتهديد الأئمة أو القبض على بعض المتطرفين، وكبح من يتلفظ بكلمة تشي بعنف أو معاداة للسامية، وكأنما القضية هي حرب على عرق أو لون، وبلا جذور سياسية.

المعضلة ثقافية واقتصادية أيضا، التطرف ملجأ وملاذ، لا بل تحول إلى هوية بديلة مع خفوت الهويات الوطنية. عشر سنوات من الحرب في أفغانستان لم تزد طالبان إلا قوة ومنعة. نصف قرن من الديكتاتورية، بقناع «علماني» في العالم العربي، لم يزد الإسلاميين إلا إصرارا. وخمسون سنة من تفقير الناس، وسرقة خيراتهم من قبل طبقة متسلطة، لم تترك لهم من خيار سوى انتخاب من تساووا معهم بالقمع والمنع.

الغرب تبنى التطرف الإسلامي في أفغانستان ليقاتل به الاتحاد السوفياتي، ثم قاتل حلفاء الأمس من «القاعدة» وطالبان، وحصد الهزيمة. التلاعب بالمشاعر الدينية واستغلال الروحانيات لأغراض سياسية أشد فتكا من الأسلحة النووية وأدهى.

عشرات الدراسات قام بها باحثون فرنسيون أكفاء على الهوية الدينية الإسلامية في فرنسا، شرحت الأعراض ووصفت الدواء. دراسة مهمة قام بها مجموعة من الباحثين، تخلص إلى الأهمية القصوى للنشأة الأسرية، والعلاقة الوثيقة بين المسلم وباقي «الأمة» لبناء هويته الشخصية وتشكيل صورته عن ذاته ومجتمعه. أمر لا يسهل مهمة الدولة الفرنسية، لأن «الأمة تأكل الحصرم هذه الأيام، والأولاد في المهاجر يضرسون».