تحرك ببطء.. إن مصر في عجلة من أمرها

TT

بعد عقود طويلة ظلت السياسة فيها فاكهة محرمة يتداولها الناس سرا، أطلقت مصر العنان لنفسها أمام مأدبة عامرة من القضايا السياسية، بشراهة تكاد تصل إلى حد النهم.

ففي مجتمع كان الناس فيه يخفون آراءهم ويتركون كل شيء لمروجي الدعايات في الإعلام الحكومي أو للمنشقين السريين، فجأة أصبح كل شخص لديه رأي في كل شيء (وقد اشتكى أحد معارفي، وهو مسؤول تنفيذي بإحدى الشركات في القاهرة، من أن سائقه الخاص دخل في مناقشات معه حول شكل الدستور الجديد). وهذا نبأ جيد، لأنه يبين أن في مصر مجتمعا نشطا لديه تصميم على منع النخب الصغيرة من العودة إلى احتكار الخطاب العام وعملية صنع القرار.

لكن في بعض الحالات، يكون الدستور شيئا توجيهيا أو إرشاديا، يحدد ما ينبغي أن يكون، وليس ما هو كائن بالفعل. فقد كان الاتحاد السوفياتي السابق يتباهى بما يزعم أنه الدستور الأكثر ديمقراطية في العالم، ومع ذلك كان بإمكان ستالين أن يذبح الملايين باسم بناء النظام الاشتراكي. ودستور الإمامة الخمينية في إيران تم وضعه على غرار دستور الجمهورية الخامسة في فرنسا، مع تعديلات بسيطة. كذلك فإن دستور مصر الحالي ليس بكل هذا السوء، لكن المشكلة هي أنه كانت تتم مخالفته طوال 50 عاما.

وأول من اخترع التقليد الذي يحتم على الدولة القومية أن يكون لها دستور هم «الآباء المؤسسون» للولايات المتحدة، الذين أرادوا أن يميزوا جمهوريتهم الجديدة عن الملكيات الأوروبية، التي كانت قائمة على فكرة المصدر الإلهي للسلطة.

وخلال القرنين الماضيين، انتشرت ظاهرة وضع الدساتير في جميع القارات، وإن كانت بعض البلدان، مثل المملكة المتحدة وإسرائيل، نجحت في تسيير شؤونها من دون وجود دساتير مكتوبة.

والدستور ينبغي أن يكون قصيرا ومبهما، فلو وضع دستور مطول لصار ساحة لتصيد الثغرات من جانب المحامين والمتحايلين، حتى لو كان هناك فارق بين الاثنين، أما لو كان محددا ومفصلا أكثر من اللازم، لحال ذلك دون استخدام التقدير الشخصي في حسم الأمور والقضايا. كما ينبغي للدستور أيضا أن يعكس الواقع، لا أن يصور وضعا مثاليا، فالدستور المثالي سوف تتم مخالفته بكل تأكيد عند التطبيق.

وينظر «الإخوان المسلمون» إلى الدستور باعتباره وثيقة تعبر عن أعلى مستوى من التوافق بين المواطنين، بينما العكس هو الصحيح، فالدستور ينبغي أن يركز على الحد الأدنى من التوافق، أو بعبارة أخرى القاسم المشترك الأصغر، وينبغي أن ينص على المبادئ التي تلتزم بها الأغلبية العظمى التزاما مطلقا من دون تردد أو ممانعة.

وفي ظل النظر إلى الدستور من هذه الزاوية، فإن مناورات البداية في الجدل المتعلق بالدستور المصري بدت غير واقعية. لكنها ليست لعبة شطرنج يجب أن تنتهي بفائز وخاسر، وفرض دستور يتجاهل الشريعة تماما قد لا يكون أمرا مرغوبا فيه، لأن أكثرية المصريين لن يقبلوا بذلك، وفي الوقت ذاته، فإن وضع دستور مبني فقط على أساس الشريعة قد يصبح بابا للخلاف والشقاق يهدم تماما حلم الديمقراطية الذي نحلم به، ذلك أن الشريعة جاءت لمعالجة أمور الحياة الشخصية، وفي المجتمعات غير المسلمة يتم التعامل مع تلك الأمور من خلال عقود شخصية يضمنها قانون البلد، وطالما أن هذه العقود لا تضر بالمواطنين الآخرين فإن الدولة تعترف بها وتكفل تفعيلها وإنفاذها.

ويكفي أن ترد الإشارة إلى الإسلام في الدستور، إلا إذا كان الإسلاميون يرون أن الشريعة أهم من الإسلام نفسه. ويبدو أن الإسلاميين الذين فازوا بأغلبية المقاعد في البرلمان الجديد متلهفون للتعجيل بعملية وضع الدستور وفرض رؤاهم المتطرفة. ولا يوجد أي سبب منطقي لتعجل الأمور، فكم كان المصريون دوما يدركون أهمية فضيلة الصبر، وهذا هو ما مكنهم من الصمود أمام العواصف لآلاف السنين. فتاريخ مصر يتكون بإيقاع ووتيرة يختلفان عن إيقاع ووتيرة برامج موجز الأنباء التلفزيونية.

ومن المفاجئ، وهو أقل وصف ينطبق هنا، أن بعض المشاركين في هذا الجدل يركزون على كيفية توصيف «الهوية» المصرية في الدستور الجديد. ألا نعرف بعد ستة آلاف عام من هم المصريون؟

ربما تكون لعبة «الهوية» هذه، التي تم استلهامها من المفكرين الإيرانيين، مشكلة في البلدان الأوروبية الغربية، التي عجزت عن التعامل مع مأزق تعدد الثقافات الذي أوجدته، لكنها لا تمثل مشكلة بالنسبة لمصر، إلا إذا جعل منها بعض المثاليين الحمقى مشكلة. ومن الاجتزاء للصورة أن يوصف المصريون بأنهم عرب فقط، كما أن إنكار عروبة المصريين يعتبر إغفالا لجزء آخر من الصورة. فالمصريون هم المصريون.. هم شعب له تاريخ، ولديه مزيج من الثقافات والتجارب التي تكونت عبر آلاف السنين. وقليل جدا من الشعوب في العالم هي التي لديها تلك «الهوية» القوية والراسخة التي يستطيع المصريون، أيا كانت انتماءاتهم الدينية، أن يفخروا بها.

صحيح أن المتظاهرين الذين يطالبون «بالانفصال عن مصر» في بورسعيد والإسكندرية ربما يكونون مبهرين شكلا، لكنهم من حيث الموضوع يهتفون في الاتجاه الخاطئ. والمصري قد يغادر مصر، لكن مصر لا تغادر أي مصري، حتى في أقصى أقاصي الدنيا.

وقد أظهر المصريون في ثورتهم قدرا من الإخلاص والالتزام الأخلاقي حاز إعجاب العالم أجمع، وهم بحاجة إلى تلك الصفات نفسها من أجل الحفاظ على ثمار انتصارهم، لأن فشلهم في ذلك سوف يعيدهم إلى فيلم الرعب الذي شاهدوه سنة 1962، حين اجتمع العسكر والإسلاميون معا على إقصاء الشعب من الجدل الدائر تماما.

وسوف يحسن المصريون صنعا إذا منحوا عملية كتابة الدستور كل ما تحتاج إليه من وقت. فقد استغرق الأميركيون 13 عاما لوضع دستورهم، كما اضطروا بعد ذلك إلى إدخال أكثر من 24 تعديلا عليه من أجل ضبطه من جميع النواحي. وفي فرنسا، رغم ما كان يتمتع به الجنرال من سلطة مطلقة، استغرق الدستور الديغولي من فرنسا أربع سنوات كاملة في صياغته. والمثال الأحدث على ذلك هو الدستور العراقي، الذي استغرق ثلاث سنوات تقريبا لوضعه.

أما وضع دستور «فوري»، على طريقة الوجبات سريعة التحضير، فهو ليس في صالح أحد. وفي هذا السياق، تعتبر مقولة فرديناند فوش «تحرك ببطء، فأنا في عجلة من أمري» نصيحة جيدة.

وعلى أي حال، فإن الاستبداد ينتشر سريعا، بينما تعمل الديمقراطية ببطء. ويصف ميلان كونديرا، الذي ألف كتابا أثنى فيه على فوائد البطء، هذا الأمر بأنه «البعد الجمالي للحياة المتحضرة». وفي الديمقراطية، عليك أن تناقش وأن تماحك وأن تقبل بالحلول الوسط. عليك أن تقنع وأن تقتنع، من دون أن تحصل أبدا على ما أردته بالضبط. عليك أن تضع في حسبانك جميع الآراء، بما في ذلك رأي سائقك الخاص.