سوريا.. اللغز الأميركي

TT

كان متوقعا أن يطول أمد الصراع الدامي والمرير في سوريا.. ذلك أن الإمكانات الذاتية والتحالفية للنظام ومعارضيه تسمح بذلك، وتجعل من النتائج النهائية لهذا الصراع أمراً غير مقروء على المدى القريب.

إلا أن أمراً يستحق التفكير فيه وهو أن النظام بعد كل الذي حدث وسيحدث لن يظل هو ذات النظام، الذي نام طويلا على حرير الإذعان الشعبي، والمعارضة اللينة، والمعادلة الإقليمية غير المحسومة على نحو نهائي. ولا المعارضة بعد كل إخفاقاتها السياسية والتنظيمية وقدراتها المتواضعة، تستطيع المواصلة على هذا النحو بعد أن ثبت قطعا أن تغيير النظم دون مشاركة دولية أو إقليمية فعالة لن يتحقق.. ودروس الربيع العربي تثبت ذلك.

لا أريد هنا استعراض قدرات النظام في سوريا على كل الصعد التحالفية والداخلية، إذ يكفي القول إنه ليس نظاما عاريا من الإمكانات الجدية، والحلفاء المؤثرين، كما أنه وبصرف النظر عن مدى مصداقية الممانعة والاستنكاف عن التسوية مع إسرائيل، فإن هذا العامل وحده كفيل بجعل أي قوة دولية أو إقليمية تعد إلى الألف قبل أن تقدم على خطوات جراحية تغير المعادلة على الأرض، وتفتح الباب لاحتمالات غير محسوبة بل وغير معروفة.

في وضع كهذا ما هو الممكن، ما هو المتاح، ما هو المحتمل..

على المدى المنظور، لا أحد يرى مصير زين العابدين بن علي ومبارك والقذافي وقد استنسخ لبشار الاسد، وحتى التجربة اليمنية المختلفة إلى حد ما على الأقل بنجاة الرئيس صالح من المقصلة، فهي ليست بالنموذج الذي يصلح لاستنساخه في سوريا بفعل عوامل كثيرة هي الفروق السياسية والاجتماعية والثقافية بين البلدين والنظامين.

إذن.. وفي حال استبعاد خلاصات السيناريوهات الأربعة التي كونت التراث الطازج لما نسميه الربيع العربي، فما الذي يمكن قراءته وتوقعه لسوريا أولا وللمنطقة ثانيا. ثم هل بعد حسم الأمر في سوريا ستكون البيئة قد تهيأت لشرق أوسط جديد يكون أكثر جاهزية لاستكمال ملفات حل الصراع العربي الإسرائيلي.

إذا لم يتغير النظام في سوريا بالمعنى المادي والبنيوي، فإن ذات النظام لن يملك إلا تغيير السياسة والاتجاه، ولن يجد مفرا من التآلف والانسجام مع بيئة ما بعد الربيع العربي، التي مالت فيها الكفة لصالح الاعتدال السياسي في أمر العلاقة مع أميركا وإسرائيل، دون تناقض مع التشدد في الأمور الداخلية. إضافة إلى أن الاعتدال الذي أفصحت عنه القوى الفائزة في زمن الربيع العربي، هو أقوى من مجرد خيار لأنه في واقع الأمر شرط حكم وبقاء.

ودعونا نتخيل تسوية موضوعية بين النظام وحلفائه مع بعض الظلال على «إيران»، وبين المعارضة وداعميها من العرب وغيرهم..

إن النظام وحلفاءه لن يستطيعوا النهوض بأعباء ما خلفته الحرب الطويلة والمكلفة من آثار موجعة على الحياة السورية، فمن يمول ممانعة سوريا، وسياسة التغريد خارج السرب، وتنمية تكاد تكون قد تبدأ من الصفر لنظام يحاصر إقليميا بالكامل.

وبالمناسبة لم تكن سوريا في زمن الأسد الأب والابن إلا في هذا الوضع، مطلوبة لبيت الطاعة الأميركي إلا أنها تطلب مهرا مناسبا لقاء ذلك، وبين الثقة بالنظام وتحالفاته وطرقه الغريبة في صناعة النفوذ، وبين الشك في جدوى تبنيه والتحالف معه، راوحت أميركا والقوى الدولية طويلا.. تارة تجرب الاقتراب والاحتواء والاستثمار، وتارة أخرى تجفل بعيدا لتجر الأوضاع إلى شفا حفرة من الانفجار، حتى أضحت سوريا لغزا أميركيا يصعب فهمه أو حتى تفسيره بما في ذلك الموقف الأميركي من الأزمة السورية هذه الأيام.

إن مجرى الصراع في سوريا ما يزال يسجل غموضا في الخلاصات، ولا يقين بشيء، وهذا له مظهر سياسي واحد، هو التعويم، والانفصام بين اللغة والسلوك على صعيد الولايات المتحدة ومن يدور في فلكها من صناع القرارات الكبرى، ذلك أن أصحاب اللغة الحادة تجاه النظام في سوريا، يفتقدون لعناصر الحسم، أما الذين يملكون حقا هذه العناصر فلن يستخدموها دون ضمان النتائج مسبقا وبنسبة مائة في المائة، ذلك أن سوريا هي كلمة السر في أمر مستقبل المنطقة، وما يمكن أن نسميه الشرق الأوسط الجديد، ثم إنها وكما كانت بحكم التكوين والموقع، الممر الإجباري للأزمات والعواصف والمتغيرات في المحيط، فإنها تظل كذلك ممرا إجباريا لأي ترتيب محتمل في الشرق الأوسط، خصوصا في مرحلة ما بعد الربيع العربي. وقد يكون هذا هو بعض السر الأميركي!!