هل هي حملة فرنسية على الإسلام؟

TT

حكاية الغرب مع المتطرفين الإسلاميين مثل حكاية صاحب مزرعة يعلم أن في أرضه شجرة فاسدة، ولكنه يمر عليها كل يوم مغمض العينين، لا يخطر في باله اجتثاثها أو علاجها، يعتبر وجودها سنة كونية أو قضاء وقدرا، حتى إذا قضى أحد أبنائه بسبب ثمرة مسمومة سارع وأحرق كل الشجر؛ الصالح منه والطالح.

رفضت الحكومة الفرنسية مؤخرا دخول مجموعة من أشهر الدعاة المسلمين، من بينهم المصريان يوسف القرضاوي ومحمود المصري، والسعوديان عائض القرني وعبد الله بصفر. فرنسا تبرر عدم السماح لهؤلاء بدخول أراضيها بأن لهم طروحات متطرفة، وهي في معظمها حول النساء، العنف ضد النساء، عزل النساء، ختان البنات، وأخيرا تبرير العمليات الانتحارية ضد إسرائيل وقتل المرتد. كلام فارغ، فغالبية هؤلاء الدعاة كانوا حتى وقت قريب مرحبا بهم في فرنسا التي تدعي أنها ترفض طروحاتهم، بينما هي تحتضن منذ عقود عصابات إسلامية متطرفة من رجيع حرب أفغانستان لهم تواصل مع تنظيمات أصولية في العراق وباكستان، وكان من النتيجة العملية التي قام بها قبل أيام محمد مراح، المنتسب لتنظيم القاعدة، الفرنسي الجزائري الأصل، وقتل فيها سبعة أشخاص في مدينة «تولوز» و«منتوبان» منهم 3 أطفال ومعلمهم من مدرسة يهودية، وثلاثة جنود من أصول مغاربية مسلمو الديانة. جريمة بشعة مع سبق إصرار وترصد كانت بحجة الاحتجاج على منع النقاب في فرنسا، والانتقام لأطفال فلسطين وأفغانستان.

موقف السلطات الفرنسية من الدعاة الذين كانوا متوجهين لحضور الملتقى السنوي لمسلمي فرنسا كان على خلفية عملية تولوز. الحكومة الفرنسية صاحبة المزرعة غضبت من محمد مراح فقررت فجأة حرق كل الأشجار بلا تمييز، فطردت عددا من الدعاة أو رفضت دخولهم. كما بدأت بحملة اعتقالات لمشتبه فيهم من الإسلاميين الفرنسيين، من بينهم أحد أشقاء محمد مراح، وهو مثل أخيه شخصية مشبوهة، له ارتباطات بجماعات متطرفة في العراق وأفغانستان وصحيفة سوابق، فلماذا التزمت السلطات الفرنسية الصمت حيال هؤلاء كل هذه السنوات وتحركت ضدهم الآن؟ هل كانت الرؤية ضبابية واحتاجت لقتل 3 أطفال لتتضح الصورة؟

لقد دأبت بعض الحكومات العربية على تحذير الغرب من احتضان المتطرفين وضمان أمنهم وإعاشتهم، سواء كانوا مهاجرين أو لاجئين، ولكن الدول الأوروبية تحديدا كانت تتجاهل أصوات التحذير، وتتجاهل حتى أصوات هؤلاء المتطرفين وهم يستخدمون أراضيها ويستغلون نظامها الذي يكفل حرية الرأي والتعبير للهجوم عليها والتحريض ضدها. بعد أحداث سبتمبر (أيلول) تغيرت مواقف الدول الغربية؛ أصبحت مؤطرة قليلا، فأجبرت كثيرا من المتشددين الإسلاميين على وقف أو تعديل طروحاتهم، ولكن النفوس الملوثة بقيت كما هي.

يظن الغرب أن الغلو والتطرف أنواع، وأن الشخصيات المؤدلجة تختلف إن اختلفت طبيعة طروحاتها، لم يقرأ الغرب التطرف على حقيقته، وأن الشخصية المغالية في القضايا الاجتماعية ستكون كذلك في القضايا السياسية والثقافية والاقتصادية وحتى السلوكية، وأن مبدأ التطرف كلّ لا يتجزأ، فهو تشوّه في المفاهيم لا يعرف التصنيف ولا المسميات الانتقائية.

من سوء الحظ أن التوقيت خان ضيوف الملتقى السنوي لمسلمي فرنسا، ولو كان الدعاة أكثر حكمة لتفهموا أن حادثة تولوز سترفع منسوب الغضب في الشارع الفرنسي، ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية الفرنسية سيبدو الرئيس الفرنسي ساركوزي اليميني الميول أكثر حدة وتفاعلا مع الحدث، وكان الأجدر بهم أن يتراجعوا من أنفسهم قبل أن يتعرضوا للرفض.

مشكلة فرنسا في المقام الأول ليست في القرضاوي والقرني وزوار الأيام المعدودة القادمين من بعيد، ولا يحق للحكومة الفرنسية أن تلوم أحدا على حادثة تولوز؛ لا المنظمات الإسلامية ولا الدعاة ولا المهاجرين المسلمين، بل تلوم نفسها على تغاضيها عن شخصيات مشبوهة دائما ما كانت محاطة بدائرة حمراء، ولكنها سمحت لها بأن تعيش بين ظهرانيها وتنتفع بجنسيتها. على فرنسا وأوروبا وحتى الدول العربية والإسلامية أن تتخذ موقفا صارما ضد أي شخصية ترتبط بذيلها مع جهات أصولية، أو تثير الكراهية وتؤلب ضد الثقافات الأخرى مهما كانت دوافعها. إن العالم يشتعل بنار الحزبية والطائفية والعرقية والقومية، وكل هذه المعارك والتصادمات ليست إلا نتيجة مباشرة لسوء التعامل الأولي مع الأخطاء، والتراخي في ردود الفعل، والتقليل من أهمية سلوكيات تبعث الأحقاد والضغينة، ومن لم يفهم الدرس في المرة الأولى، فسيتكرر أمامه مرة أخرى على مستوى مختلف.

ومن جهة مقابلة، لم تحاول فرنسا أن تعالج العائدين من أفغانستان وباكستان من مرض التطرف، كما فعلت الكثير من الدول ببرامج إعادة التأهيل، بل تركتهم يواجهون الفقر والبطالة ونفور المجتمع حتى تضخم وحش الكراهية في نفوسهم وخرج يقتل بدم بارد.

من المؤسف أن المتضرر الأول من حادثة تولوز هم مسلمو فرنسا من المعتدلين، وفي وسط فورة الانتخابات الرئاسية الفرنسية واستخدام ورقة الإسلام المتطرف سيكون عليهم تكرار إعلان براءتهم وبراءة دينهم من أفعال القتل والترهيب، وأن يجتهدوا أكثر للانسجام مع المجتمع الفرنسي، وتقديم أنفسهم كمسلمين معتدلين ومواطنين صالحين مهما حاول المتطرفون بناء حواجز تعزلهم عن مجتمع دولتهم.