محنة المفكر العربي

TT

وأقصد بالمفكر هنا كل هؤلاء التعساء الذين ابتلاهم الله بعاهة التفكير في عالمنا العربي، الشعراء والأدباء والكتاب والفنانين والفلاسفة، وهات ما عندك. تطرق إلى أحدهم واحد منهم قبل أيام عندما تكلم الزميل المفكر والمناضل السياسي عبد الرزاق الصافي في الملتقى العراقي في لندن بمناسبة نشر الجزء الثاني من مذكراته. شملت هذه الذكريات ذكرياته مع الجواهري عندما نشآ في مدينة النجف. أشار في كلامه إلى ضلوع الشاعر الكبير في مدح رؤساء الدول وكبار القوم. هذه نقطة كثيرا ما أثارها بعض نقاد الجواهري، ومنهم القارئ الفاضل عبد الله الشهري قبل أيام في قوله إنه كان مداحا للطغاة.

تناول الزميل الصافي هذه النقطة فقال إنه وسواه من سائر الوطنيين التقدميين لم يعتبروها شيئا ذا بال. الجواهري شاعر، وهذا ديدن الشعراء منذ أن زاول الإنسان نظم الشعر. المهم في الجواهري قصائده الوطنية.

أريد أن أنزل بهذا الموضوع إلى أرض الواقع. والواقع يقول إن الشاعر إنسان، وكأي إنسان تفرض عليه غريزة البقاء إقاتة نفسه وإقاتة أسرته من زوج وأم وأولاد وأشقاء. والشاعر كفنان يصبو إلى طيب العيش. وإذا اضطر لكسب عيشه من مدح أولي الشأن فلا نلومن إلا أنفسنا. فعندما ألقى أبو فرات قصيدته الخطيرة «أخي جعفرا». هل دفع له أحد من الوطنيين فلسا عنها؟ أقصى ما أتصور أن ما جادوا به عليه هو أن دعوه بعد خروجه من جامع الحيدرخانة، حيث ألقى قصيدته التاريخية، إلى ماعون كباب في مطعم شمس المجاور. لم يخطر لنقاده أن يسألوا أنفسهم، كيف يعيش هذا الرجل؟ كيف يعيش المفكر؟ ممارسة الفكر في عالمنا العربي عملية مخطورة. أقساها الموت الزؤام، وأقلها الإفلاس المزمن. نزار قباني الشاعر الوحيد الذي ربح شيئا من كتبه. ويحسدني الزملاء لأنني ربحت 130 باوندا من كتابي «تكوين الصهيونية» الذي أضعت خمسة أعوام من حياتي على تأليفه. كلنا نعيش من أعمال هامشية تضيع علينا فرصة التفرغ لعملنا الفكري. أكثرنا يعيشون من التدريس والعمل كموظفين. أنا بنيت بيتي من ترجمة مواصفات مجاري المياه القذرة في ليبيا. وشاعرنا الجواهري عاش كذلك من عمل هامشي، مدح أولي الشأن. وكانت في الواقع معيشة متواضعة وشحيحة. وكذا فعل معظم المفكرين من هوميروس والمتنبي وأبي تمام والبحتري إلى بن جونسن وباخ وبتهوفن. كلهم خدموا أولي الشأن ليكسبوا قوت يومهم.

وفي توجيه اللوم لأنفسنا، أشعر بأنني أردد كلمات أكبر مداح في التاريخ، أبي الطيب المتنبي بعد كل ما قاله في مدح كافور الإخشيدي ثم مضى لهجائه فقال:

وما كان مدحي مدحا له

ولكنه كان ذم الورى!

العيب الحقيقي في الورى، في المجتمع الذي يجعل المفكر الذي ينبغي أن نعول عليه في إصلاح حياتنا وبناء مجتمعنا وإغنائنا بروائع فنه وفكره، يضطر إلى إضاعة وقته وتبديد مواهبه في تافهات العمل. علينا على الأقل أن نفهم ما قاله أبو مخلص عن مدح الشعراء: توافه علينا تجاوزها، مواصفات لمجاري المياه.