المسؤولية الفلسطينية.. والمسؤولية العربية

TT

لماذا لا ينعقد المجلس الوطني الفلسطيني؟ لماذا لا ينعقد هذا المجلس وهو المخول تاريخيا بمناقشة السياسة الفلسطينية، واتخاذ القرارات بشأن استمرارها أو تغييرها؟

لماذا لا ينعقد هذا المجلس ليحسم حالة الغموض التي تحيط بالسياسة الفلسطينية، والتي لم تعد تدري إذا كانت سياسة تفاوض مع العدو الإسرائيلي، أم سياسة مقاومة للعدو الإسرائيلي المحتل؟

وها نحن نواجه الآن حالة مزرية، عنوانها الأساسي أن المقاومة الفلسطينية للاحتلال متوقفة، وكذلك المفاوضات متوقفة أيضا.

وحين تتوقف المقاومة، وحين تتوقف المفاوضات، يكون العدو الإسرائيلي في أحسن أحواله، فهو لا يواجه ضغطا عسكريا، وهو لا يواجه ضغطا سياسيا، وهو لذلك يستمر في احتلاله بهدوء، ومن دون ثمن.

ويبدو فلسطينيا، أن القيادة الراهنة لا تعرف إلى أين هي ذاهبة، فهناك قادة أساسيون فيها يعلنون أنهم لا يرغبون بالعمل المسلح ضد الاحتلال، وهناك مفاوضات متوقفة، يغلق توقفها باب الأمل بالمستقبل. وإزاء هذا الوضع لا نريد إطلاق مواقف وجدانية، ندعو فيها القيادة للتحرك العسكري ضد الاحتلال، أو نحبذ فيها الجدل اللامجدي مع الاحتلال، أصبح الأمر يتطلب ما هو أهم من ذلك. وما هو أهم من ذلك لا يبحث في الجدل الصحافي العلني، ولا يبحث في الغرف السرية المغلقة، لأن ميدانه الحقيقي هو المجلس الوطني الفلسطيني، فهو الذي يبحث، وهو الذي يخطط، وهو الذي يقرر. وهو غائب عن الصورة السياسية منذ سنوات طويلة.

لقد آن الأوان لتوجيه دعوة لانعقاد المجلس الوطني الفلسطيني، لكي يبحث في الأمور بمنطق استراتيجي، فيقوم بعملية تقييم لتجربة التفاوض ومسارها، ويتخذ القرارات المناسبة لتصويب ذلك.

لقد عاشت الثورة الفلسطينية مرحلة كان فيها القرار السياسي يتركز حول مواصلة الكفاح المسلح ضد الاحتلال. ثم عاشت الثورة الفلسطينية مرحلة تالية امتزج فيها منهجا الكفاح المسلح والمفاوضات، ثم برزت مرحلة ثالثة عبر مواقف قيادات رئيسية، تقول بالمفاوضات وتستبعد الكفاح المسلح، بل وتدعو أحيانا إلى الكفاح الشعبي السلمي. ولا نريد أن نتسرع وننحاز إلى هذا الرأي أو ذاك، إنما نريد أن ندعو إلى مزيد من النقاش والحوار، لتحديد الأسلوب النضالي الأنسب في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، إذ لا يجوز لقائد أو لقيادة أن تقرر منفردة وأن تغير التوجهات الاستراتيجية منفردة، مع أن الكل يعرف أن مثل هذا القرار الاستراتيجي لا يمكن اتخاذه إلا عبر مجلس وطني، وعبر نقاش حر في مجلس وطني ينعقد لهذا الغرض.

وحين لا ينعقد المجلس الوطني للمناقشة والقرار، فإن الوضع الفلسطيني يكون في مواجهة أزمة حقيقية. وأسوأ ما فيها أن تصبح الآراء الشخصية هي المسيطرة.

والذي يحدث الآن، أن قيادات فلسطينية متنفذة، لا تحبذ نهج الكفاح المسلح ضد الاحتلال، وهي تدعو لاعتماد منهج الكفاح الشعبي السلمي، وهي تظن أيضا أن هذا النهج أسهل وأريح، بينما الكل يعرف، ومن خلال التجربة الثورية العالمية، وأبرزها تجربة الهند، أن الكفاح السلمي، وما يقتضيه الكفاح السلمي من تعبئة شعبية، هو أصعب بكثير من الكفاح المسلح، ويحتاج إطلاقه إلى جهود مكثفة قبل اللجوء إليه أو الإعلان عنه، وإلا جاء فشله مدويا.

ولذلك نصرّ ونؤكد، أن البت في هذه المسألة يحتاج إلى حوار فلسطيني داخلي، ميدانه المجلس الوطني الفلسطيني، أي الهيئة المخولة باتخاذ قرار من هذا النوع، ثم تحمل مسؤولية العمل بمقتضاه.

ولا ندري لماذا لا تتم الدعوة لانعقاد المجلس الوطني، بعد أن اتضح مصير كثير من السياسات التي اعتمدت ولم تلق تجاوبا من الخصم.

وهنا نعود ونؤكد أيضا أن نزعة «فلسطنة» العمل الفلسطيني، هي نزعة قصيرة النظر. فالعمل الفلسطيني كان ولا يزال جزءا من العمل العربي، سياسيا وعسكريا. ومن واجب القيادة الفلسطينية أن تدير أوسع بحث سياسي مع كل القيادات العربية الفاعلة، لتحديد خط العمل المستقبلي، وإلا بقي الشلل الراهن مسيطرا على الساحة، وبقيت الأمور تدور عبر الكلام، ولا شيء غير الكلام.

يحتاج الأمر إلى خطوتين استراتيجيتين؛ خطوة فلسطينية، ينعقد فيها المجلس الوطني الفلسطيني، ويناقش المسألة ويضع قراره بشأنها، ثم خطوة فلسطينية - عربية يلتقي فيها الطرفان ويناقشان المسألة فرديا وجماعيا. لبلورة موقف عربي موحد، ليصبح العمل الفلسطيني عملا عربيا، حيث الحقيقة الدائمة بأن مواجهة إسرائيل هي مسؤولية عربية بالأساس، وليست مسؤولية فلسطينية. ومهمة الفلسطينيين هنا تحريك المسألة دائما، بحيث لا تموت، ولا تدخل في ثلاجة الجمود.

ومثلما هناك حاجة لانعقاد مجلس وطني فلسطيني، هناك حاجة بعد ذلك لانعقاد قمة فلسطينية - عربية، يدعو لها الفلسطينيون، لبحث الخطط العملية، ولتحديد الأدوار الفلسطينية، والأدوار العربية، ثم العمل الجماعي، حسبما يتقرر.

وإذا لم يحدث ذلك، فإن إسرائيل ستكون في أفضل حال، إذ لا عمل عسكريا يواجهها، ولا عمل سياسيا عربيا يضغط عليها، وهذا يعني مواصلة حالة الجمود، وهو جمود ترتاح إليه إسرائيل، وربما يرتاح له أيضا الوضع الدولي، لأنه لا أحد يطالبه بمواقف محددة.

الوضع الفلسطيني مشتت الآن، وتهيمن عليه الآراء الفردية، ويتواصل فيه الاحتلال الإسرائيلي، ومن دون دفع أي ثمن لهذا الاحتلال. ولذلك نقول إن المسؤولية الفلسطينية هنا كبيرة. وإذا لم تتحرك القيادة الفلسطينية لمعالجة الوضع واقتراح الخطط، فلا شيء يمنع من تلاشي هذه القيادة تاريخيا، ومن بروز قيادات جديدة، تواجه الاحتلال الإسرائيلي بقوة المقاومة المسلحة المشروعة دوليا.

ونلاحظ هنا أيضا ما هو أخطر. إذ إن الوضع السياسي مستكين إلى هذه الحالة، إذ لا أحد يتحدث منذ زمن، حتى في إطار التصريحات الصحافية، عن إسرائيل، أو عن الخطر الإسرائيلي، لا على فلسطين، ولا على الوضع العربي، وكأن السياسة العربية تقدم استقالتها من مواجهة تحدياتها الاستراتيجية.

صحيح أن القمة العربية ناقشت المسألة في اجتماعها الأخير، واتخذت بشأن العدوان الإسرائيلي قرارا جيدا ومفصلا، ولكن هذا القرار خلا من تحديد الخطوات العملية المطلوبة، وخلا من تحديد الأدوار الفلسطينية أو العربية، وخلا من تحديد مناهج العمل السياسية أو العسكرية. ولذلك يحتاج الأمر إلى متابعة ضرورية.

إن الحديث عن خطر إيران مثلا، أخذ يطغى على الحديث عن الخطر الصهيوني، مع أن الكل يعرف أن المواجهة مع إيران لا تُحل بالحروب، إنما بالحوار السياسي، ومجاله قائم وممكن. أما الخطر الصهيوني، فله مواجهة واحدة، هي الضغط على إسرائيل، إما بالحرب وإما بالتهديد بالحرب. والتهديد بالحرب يكون أحيانا أكثر فعالية من الحرب نفسها، إذا كان تهديدا يأخذ طابع الجدية، لا طابع الحديث التقليدي عن الاهتمام بفلسطين وبالقضية الفلسطينية.

إن قرارات القمة العربية بحاجة إلى خطة عمل تنفيذية، وهو الأمر الغائب حتى الآن.