اغتيال جعجع.. الرسالة لم تصل

TT

تأتي محاولة اغتيال سمير جعجع، القطب السياسي المسيحي اللبناني الشهير، تعبيرا صارخا عن تفجر التقاطعات الطائفية السياسية في المنطقة.

جعجع أعلى صوت مسيحي معارض لفكرة تحالف الأقليات التي يروجها نظام الأسد مسوغا للاصطفاف بشكل غرائزي خلف الأسد العلوي «البعثي» ظاهريا، ضد الثورة «السنية»، كما هو القاموس الباطني العميق لفهم الصراع الدائر.

حتى تتضح الصورة أكثر، وبضدها تتميز الأشياء كما يقال، نعرف قيمة القائد المسيحي اللبناني سمير جعجع عندما نقارنه بموقف قطب مسيحي لبناني آخر هو الجنرال ميشال عون، الذائب في تحالف طائفي مع حزب الله الشيعي ونظام الأسد العلوي، هذا التحالف المصمم لاستهداف الأكثرية السنية في عموم بلاد الهلال الخصيب من العراق إلى لبنان، لكن تبدو لنا ألوانا مختلفة تكسر حدة اللون السني في هذا التحالف، حيث نرى موقف زعيم الدروز وليد جنبلاط، المنحاز بشجاعة مبهرة إلى الثورة السورية، بل ووضع علم الثورة السورية على قبر والده كمال جنبلاط في ذكراه الأخيرة، وقال صراحة إنه ضد نظرية تحالف الأقليات، وكذلك قال جعجع بشكل متكرر وواضح ردا على عون وتياره، بل وردا ضمنيا على رئيس الكنيسة المارونية الجديد، بشارة الراعي، الذي اقترب كثيرا من لغة الأسد وعون على عكس سلفه السابق نصر الله صفير.

حينما نتحدث عن العامل الطائفي في تفسير السياسة لا يعني هذا الإقرار بصوابية التعامل الطائفي ولا بأخلاقياته، ولكنه أيضا يعني الواقعية وإدراك الواقع، أو جانب عميق منه، كما هو وليس كما نريد له أن يكون.

بماذا نفسر مواقف نوري المالكي، ابن حزب الدعوة الشيعي، ورئيس الحكومة الطائفية العراقية الحالية، الذي يطارد نائب رئيس الجمهورية السني طارق الهاشمي، ويمد بشار الأسد بالمعونات المعنوية والمادية، ويفرق بين بعث شرير، وهو بعث صدام حسين «السني»، وبعث طيب، وهو بعث الأسد «العلوي»؟!

إنها صورة تصرخ بالطائفية والاصطفاف التاريخي العميق، وليست فقط تهمس بهذا الصوت.

الغريب أن العالم كله، وقد عبر عنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، قد وافق على فكرة الخوف من البديل السني في سوريا، لكنه بموقفه هذا يساعد أكثر، من حيث لا يريد، في تعزيز الطائفية السنية كردة فعل على حالة الحصار، على طريقة: إذا كنتم لا ترون في ثورتي على القهر والظلم إلا كوني سنيا، وليس مواطنا مظلوما، فسأكون سنيا، بل ومبالغا في سنيتي، ما دام أن كل رسائلي وممارستي الوطنية الجامعية، التي جسدها شعار الثورة الواضح: «واحد واحد واحد... الشعب السوري واحد»، لم تصل إليكم. وما دام أنني سميت إحدى كتائب جيشي الحر باسم سلطان الأطرش، ويقود مجلسي الوطني زعماء أمثال جورج صبرا... ما دام كل هذه الرسائل لا تصل إلى مستلمها، فسأكون سنيا بطريقة أعنف وأكثر حدة مما تتخيلون.

العالم، إن تطيفت الثورة السورية، وهي لم تتطيف بعد، فسيكون هو المسؤول عن الدفع بها في هذا الاتجاه دفعا.

التنوع الطائفي حقيقة من حقائق المنطقة، بالذات في بلاد الشام والعراق ومصر، ويجب الاستفادة من هذه الحقيقة وليس تحويلها إلى أزمة.

لذلك كانت مواقف مثل مواقف سمير جعجع أو وليد جنبلاط مفيدة جدا في تكريس اللغة الوطنية والبعد الإنساني، ونبذ التحديد الطائفي ولغة الطوائف التي يصرخ بها أمثال عون والمالكي وحزب الله.

في مقاله الأخير، تحدث حازم صاغية، الكاتب اللبناني، في كلمات مؤثرة عن جانب من هذه القصة المعقدة للمسيحيين العرب في المحيط السني.

تحدث عن أنه «في كيمياء الطوائف كثير من الهواء الفاسد، وعلاقة السنة بالمسيحيين، والمسيحيين بالسنة، ربما كانت أكثر العلاقات امتلاء بذاك الهواء».

استعرض محطات من صور الاندراج المسيحي في خطاب ثقافي جامع مع البحر السني عبر القومية العربية، وحتى عبر فكرة القومية السورية على طريقة أنطون سعادة، ومن خلال الانخراط في اليمين أو حتى الفجاجة في اليسار، وكان من أذكى الملاحظات التي ساقها صاغية في كيفيات النسج والخلق الموحد العابر للمحدد الديني والطائفي هو المبالغة في تضخيم المسألة الفلسطينية من خلال اسم مشترك بين المسيحي والمسلم هو مدينة القدس. وقال: «كانت مدينة القدس السلعة الأشد تداولا في الصفقة. أما اللاسامية، التي لم تكن ظاهرة من ظاهرات التقليد الإسلامي، فشكلت الهدية المسمومة. هكذا نوشد المسلمون أن اكرهوا إسرائيل، لا لأنها احتلت الأرض، بل لأن أجدادها صلبوا المسيح الذي يقول المسلمون إنه لم يُصلب».

الحق أن الحضور الطائفي، على الرغم من وجوده باستمرار في المشهد السياسي العربي، بدرجة أو بأخرى، لم يكن بهذا الإلحاح الذي نراه منذ أزيد من عقد، وإن شئت فقل إن ثورة الخميني أيقظت العفاريت السنية النائمة.

العراق ركب بشكل بنيوي الآن بطريقة طائفية فجة وعلنية بعد سقوط نظام صدام، كما هو حال لبنان، وكما يجري الحديث الآن في سوريا من قبل خصوم الثورة عن محددات طائفية. لكن هناك محطات في التاريخ القريب تخفف من هذه الحدة الطائفية.

أسماء مثل رئيس الحكومة السوري في عهد الاستقلال، فارس الخوري، ورموز وطنية نضالية مثل الدرزي سلطان الأطرش والعلوي صالح العلي، ورموز خدمت الثقافة العربية بجدية مثل البيوتات المسيحية العلمية: آل البستاني واليازجي في لبنان، وكذلك رموز وطنية مثل مكرم عبيد باشا في مصر، كلها تؤكد على أنه ليس صحيحا أن الطائفية قدر لازب لا مفر منه في هذه المنطقة.

وليد جنبلاط - المهدد بدوره مثل جعجع - الآن يرث مواقف والده المعادي للطائفية، بل وموقف جده أمير البيان شكيب أرسلان الذي كان أبرز نصير عربي للهوية العربية والإسلامية، وصديقا شخصيا للملك عبد العزيز آل سعود مؤسس الدولة السعودية الحديثة، كل هذه تؤكد أن ثمة الكثير مما يجمع بين أهالي هذه المنطقة أكثر مما يفرق.

بل إن كثيرا من الثوار السوريين من أبناء الدروز ضد المستعمر الفرنسي لجأوا في لحظات معينة إلى الأراضي السعودية في عهد الملك عبد العزيز... لمن لا يذكر ذلك.

ليست الخشية من طائفية الثورة السورية، على العكس الثورة السورية تؤكد بصيغ مختلفة على وطنيتها وتنوعها ووحدتها الوطنية، الذي يلح على استحضار البعد الطائفي علنا وسرا، هو النظام نفسه.

الخشية هي من العكس، وهي أن استمرار النظام الأسدي في ممارسة القتل والفجور الدموي، هو الذي سيغذي خطاب التعصب الديني السني، لذلك فإن وجود حضور مسيحي ودرزي وعلوي وشيعي وكل مكونات النسيج السوري في الثورة يقضي على مزاعم الخطاب السني المتعصب والحاصر للمواجهة في ثنائية طائفية مقيتة.. إن أراد مستقبلا تسويق روايته عن الثورة.

عطفا على ما بدأنا به، فمحاولة اغتيال الزعيم المسيحي اللبناني سمير جعجع، هي محاولة لاغتيال فكرة التحالف الإنساني الوطني ومحاولة لضرب الرموز التي تكذب فكرة تحالف الأقليات.

جعجع مثل جنبلاط مثل الحريري، رموز تساعد على مكافحة الطائفية والانطلاق الحصري منها، وليست تساعد على قدريتها، أقله في هذه اللحظة التاريخية التي قد تكون فرصة نادرة للخروج من هذا النفق الكئيب.

[email protected]