في «حارتنا» رئيس سابق!

TT

لم يتحقق حتى الآن للإخوة المصريين حلم التداول السلمي للسلطة، أول شروط المعافاة من الشمولية الثقيلة وديكتاتورية الفرعنة أن يكون بينهم رئيس جمهورية سابق، حي يرزق يمشي على الأرض بين الناس! فالرئيس السابق إما قتل أو مات في تاريخ الجمهورية بأشمله والممتد على مدى ستين عاما من الزمن. أما إن كان حيا فلا بد أن يكون وراء القضبان. ومن هنا فإن السباق على كرسي الرئاسة يبدو أنه سباق انتحاري لأن قتل الرئيس وصل إلى المرشح، وإن كان هذه المرة بالمعنى المجازي، أي قتل الشخصية، فلم ينجُ مرشح للرئاسة المصرية من «البهدلة» والتنابز حتى الآن.

مفاجأة من العيار الثقيل فجرها ترشح عمر سليمان ذي السبعة والسبعين عاما من العمر، والذي عمل كرئيس للمخابرات العامة في عهد مبارك لأربعة عشر عاما، للرئاسة المصرية القادمة، بعثرت أوراق السباق وزادت من الشكوك والريبة.

يثور سؤال: هل كان الإخوان يعرفون ذلك مسبقا عندما أعلنوا عن ترشيح محمد خيرت الشاطر - نائب المرشد العام ورجل الأعمال - قبل أيام، حيث قالوا في المؤتمر الصحافي لإعلان الترشيح إن هناك من الفلول من يريد أن يترشح أو رشح بالفعل للرئاسة؟! «الفلول» تعبير ازدرائي سياسي حديث يشير إلى أتباع النظام السابق، وهي إشارة فيها شيء من التحقير، حيث إن النظام السابق ليس أفرادا قلائل، بل إن هناك عشرات الآلاف إن لم يكن ملايين كان لهم مصلحة بشكل ما مع النظام السابق، كما أن ملايين آخرين قد روعتها الهجمة الاستحواذية لإخوان مصر على السلطة، كما أخافتها هجمة السلف الذي يريد نصيبا من السلطة حتى غصبا عن القوانين المرعية التي تمنع ترشيح من ينحدر من صلب أحد الأبوين ممن يحمل جنسية غير مصرية، فرغم ذلك النص القانوني الصريح، اعتبر كثير من أهل السلف المصري أن من يقول إن حازم صلاح أبو إسماعيل، الناشط القانوني والفقهي ذا الخمسين عاما، الذي كان حتى وقت قريب تحت جناح الإخوان، له والدة حملت الجنسية الأميركية هو قول يرتقي إلى المؤامرة، بل يحل «قتله» لأنه دنس المقدس!

ما زاد المسرح إرباكا ترشيح الإخوان رديفا للشاطر، هو محمد مرسي، ويشاع أن السلف لديهم رديف آخر لأبو إسماعيل!

من الواضح أن المعركة للرئاسة المصرية هي معركة كسر عظم، وقد تتطور الأمور إلى أكثر من ذلك في الأسابيع والأيام القادمة. إلا أن ما يحدث في مصر يثير تساؤلات، ليس آخرها: هل هناك شيء في المطبخ المصري لا يعرفه أهل الخارج؟ شيء مخفي عن النظر، وأعني بأهل الخارج هنا المصريين في الشوارع والمدن الذين يخرجون اليوم للهتاف لهذا أو ذاك من المرشحين. هل هناك طبخة تعدها النخبة بعيدا عن الأعين؟

من قراءة متأنية لما جرى ويجري حتى الآن على ساحة السياسة المصرية، اجتهادي يقول نعم، هناك صراع ناعم بين قوى تنتمي إلى جماعتين على الأقل، الأولى تراثية والثانية حداثية، وهما في سباق للاستيلاء على التركة.

هناك سيناريوهات لخلافة مبارك يكاد يكون وقوعها مستحيلا، منها اثنان: سلفي يحكم مصر وهو لا يعرف ألف باء السياسة، فقط ناشط حقوقي كان أصعب ما واجه معركة انتخابية في نقابة المحامين، فلم يعرف دهاليز الحكم المعقدة، ووراءه طائفة كبيرة من المهمشين يعتقدون أن السمن والعسل قاب قوسين أو أدنى وهي في إهاب قائدها، أو إخواني لم يتسنَّ له العمل السياسي في السلطة، يستولي على المؤسسات ويقاد من خارج تلك المؤسسات في مجلس شورى الجماعة أو من المرشد نفسه، هذا السيناريو يخيف جماعات كثيرة في الداخل المصري لها مصالح عميقة، وأيضا يخيف قوى خارجية تعرف أن مصر هي عمود الخيمة في المنطقة العربية.

واضح أن السيناريو السابق في شقيه من الصعب وقوعه، ما المخرج إذن؟ المخرج الأول هو العسكر الذي قد يدفع مجموعة وسطى إلى السلطة تحت ذريعة جاهزة الآن، ساعد على تجهيزها الإخوان والسلف من خلال سباقهم المتسرع للاستحواذ على السلطة التي بدا لهم أنها في فراغ، ويبدو الدفع إلى السلطة هنا ليس بانقلاب عسكري تقليدي، وإنما بالدفع بأحد أهل الثقة إلى السباق الرئاسي بعد أن نضجت الظروف، فكان هو عمر سليمان، المجرب والمجرب.

مصر لها ارتباطات إقليمية ودولية كبرى، كما أنها تواجه مشكلات عميقة اقتصادية واجتماعية لن يحلها قليل من الأدعية وكثير من التمني، هي تحتاج إلى نخبة تستطيع أن توصلها إلى حوكمة رشيدة، كما ليس من المعقول أن تخرج مصر من حكم الرأي الواحد إلى فرض الرأي الأوحد، كما أن المؤسسات الديمقراطية لن تكون قادرة على النطق في فضاء سيادة الرأي الأوحد، مهما حاول البعض أن يشتري الوقت ويزف الوعود البراقة. لم يظهر للمتابع حتى الآن برنامج سياسي حديث ومقنع من القوى الجديدة غير الوعود المرسلة والعبارات المعسولة.

إذا كان الأمر يقتصر للنهوض بالأمة على إقامة إذاعة دينية ومصرف إسلامي، فقد كان ذلك موجودا أيام بن علي في تونس والقذافي في ليبيا وأيضا توفر بكثرة في مصر مبارك، الحكم أوسع من ذلك بكثير في بلاد يتضاعف عدد سكانها كل عشرين عاما، وأكثر من 60% من عامليها في القطاع العام، وتعاني من نقص فادح في خدماتها الصحية والتعليمية، وتعتمد في ثلث دخلها على السياحة، هذا الوضع المعقد يحتاج إلى توافق مجتمعي واسع بعيد عن الشعارات والمجاملات والأماني وبعيد عن دغدغة عواطف الجمهور بجره إلى قضايا جانبية مؤقتة وفرعية تنتشر اليوم بين إعلام الرياء وإعلام المشاغبة.

بترشيح عمر سليمان أصبح هناك إعادة توجيه لسفينة مصر الكبيرة من مسارها الذي بدا وكأنه من المستحيل تغيير اتجاهه إلى وجهة أخرى مختلفة، ومن المؤكد أن هذا التوجه الجديد سوف يقابل بجنون من الارتياب والشك والأقاويل والإشاعات والاتهامات، ماضي عمر سليمان فيه الكثير مما ينبش. حدسي أن معظم المصريين سوف يكون خيارهم، بعد ما حصدوه في الأشهر القليلة الأخيرة من قلق، هو التمسك بالربان الجديد، شريطة أن يكون هذا الربان قادرا على توجيه مسار السفينة وجهة أخرى لها علاقة بالفعل بالدولة المدنية المسؤولة التي تتوجه إلى كل قطاعات الشعب وفصائله، لا أصحاب الأصوات المرتفعة فقط.

الخطأ القاتل الذي حدث أن التجمعات المصرية السياسية، وقد فككت بنية النظام السابق، تسابقت على الاستحواذ على بنية هشة لم يبلغ عودها أشده، ونسي الجميع في هذا السباق أن الأمر يحتاج إلى عملية بناء طويلة زمنيا، أول ما تحتاج إليه بالفعل هو التوافق الواسع بين أطياف المجتمع المصري واتجاهاته السياسية المختلفة، وقد دفع هذا التسرع غير المنضبط إلى العودة من جديد إلى الرجل الذي بدأ مرحلة التفكيك ليبدأ بمرحلة التركيب!

آخر الكلام:

يقول الشيخ الجليل المرحوم محمد عبده، قبل أكثر من قرن من الزمان، ما يلي: «إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر في مائة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حمل على الإيمان ولا يجوز حمله على الكفر». رحمه الله.