الكارثتان والغرقان

TT

يوم الاثنين الماضي نشرت «العربية نت» تحقيقا مؤثرا للزميل كمال قبيسي عن العرب الذين غرقوا على «التايتانيك»، بمناسبة مرور مائة عام على الحادثة الأكثر شهرة في سفر البحار. علق 239 شخصا على الرواية، وهو ما أعتقد أنه رقم مهم. لكن الأهمية المفزعة في التعليقات أن النادر جدا بينها كان عن الباخرة وغرقها والعرب الذين غرقوا معها، وجلهم لا كلهم، من اللبنانيين، لأنهم في ذلك الزمن كانوا المهاجرين العرب الوحيدين تقريبا، بعكس ما أصبحنا عليه بعد مائة عام، أمة مهاجرة، أو لاجئة، على أهبة الاستعداد.

239 عربيا تشاجروا مع بعضهم البعض حول قضايا لم ترد في التحقيق، لا ذكرا مباشرا ولا إيماء ولا تبطينا ولا تعلينا. تجادلوا في المسيحية والإسلام، في الأندلس والحروب الصليبية، في صلاح الدين والمسيحيين العرب الذين حاربوا إلى جانبه، وكتب متابع مصري «مصري واحد أهم من ألف» مستنكرا ألا يكون عدد الضحايا المصريين في مكان هذه الحادثة الشهيرة أكبر من عدد اللبنانيين، غاضبا ألا يكون المصريون أكثرية في الموت كما هم في الحياة.

لم أكن في حاجة لعرض 239 تعليقا لكي أدرك في أي حال نحن الآن. أمضينا ثلاثين عاما، أي جيلا كاملا، نناقش في مقال نزار قباني «دفاتر النكسة» وبضعة أعوام في مناقشة النكسة نفسها. أمضينا نصف قرن في أربعين حربا عربية وأربع حروب مع إسرائيل. زحفنا على لبنان والكويت والصحراء والتشاد ونحن نرفع علم فلسطين.

و239 تعليقا لا علاقة لها بموضوع التعليق الأساسي: التايتانيك وعربها. التحقيق ومدى موضوعيته أو جديته أو أهميته المعلوماتية والصحافية. امتلأت صحف ومجلات العالم بالكتابات عن غرق السفينة. كلها كانت حول الموضوع نفسه. لا عن صلاح الدين ولا عن «ريتشارد قلب الأسد». لم يتشاجر أحد مع أحد حول حدث عمره مائة عام، لا علاقة لنا به، إلا من حيث وجود بضعة مسافرين لبنانيين بين الغرقى. ومع ذلك وجد 239 شخصا حوالي 2930 سببا للتشاجر والتشاتم والتحاقد مع بعضهم البعض. أعرف، كما تعرفون جميعا، أننا مختلفون حول كل شيء. ومتشائمون حول جميع الأشياء. وإذا حلت بيتا الديمقراطية فسرعان ما استعربت وتعربت، بمعنى عاربة ومستعربة معا، فكان أول مظاهرها الإلغاء والإبعاد والتسخيف والتخوين وعربدة المكابرة. ولكن أن يتكبد 239 شخصا الجلوس وراء الكومبيوتر للدخول في معركة لقضية حول باخرة غرقت في المحيط الأطلسي قبل قرن كامل من زمان الزمان، فهذه لعمري، على ما كان يقول رشيد كرامي، هذه لعمري دلالة أن ما حل بالسفينة ليس شيئا أمام الكارثة التي حلت بالعرب. وتعجبين من سقمي؟!