التجسس الأميركي على سوريا وإيران

TT

في يوم واحد قرأت موضوعي تجسس، أحدهما عن قيام طائرات استطلاع أميركية بمراقبة المشاريع النووية الإيرانية، والآخر صورة فضائية لدبابات تحيط بمدينة إدلب أحد أهم معاقل المعارضة السورية، التقطت قبل خمسة أيام من انتهاء المهلة المحددة من قبل مجلس الأمن، التي أعلنت الخارجية السورية وجود سوء تفسير دولي حيال التعهد السوري. وقد وجدت في الحالتين موضع اهتمام شدتني إليه ذكريات عقد الثمانينات. وسأستحضر ما بقي في الذاكرة عن قدرات التجسس الأميركية في هذين المجالين، على أمل استنتاج التوجهات الأميركية من قبل القارئ حيال المعضلتين السورية والنووية الإيرانية.

في ما يتعلق بقيام طائرات تجسس أميركية باستطلاع ومراقبة المنشآت النووية الإيرانية، فإنه قد يكون مستندا إلى معلومات صحيحة وهو الأرجح، إلا أن تنفيذ مثل هذه المهمات لا يتوقع أن يقدم معلومات مفيدة مضافة لما مثبت أصلا، إلا إذا كان الغرض تحديثا روتينيا لحالات التوثيق السابق، لأن الأهداف المطلوب متابعتها تعتبر من الأهداف الاستراتيجية الثابتة التي لا تجري عليها متغيرات سريعة، طالما كانت هياكلها الخارجية متكاملة. أما الأهداف الحديثة، فإنها مقامة في مواقع سرية وتحت الأرض لا يمكن الوصول إلى حقائق أساسية عنها بواسطة الاستطلاع الجوي، سواء كان بالأقمار الصناعية أو بطائرات التجسس.

ولما كانت صور الأقمار الصناعية كافية لرصد المتغيرات في شكل الأهداف الأرضية، فإن الحالة الوحيدة التي يمكن الأخذ بها في تفسير الغرض من التجسس بالطائرات هو فقط إعطاء انطباع مزدوج: لإيران بمثابة رسالة تحذير، وللجوار القلق من البرنامج النووي الإيراني لغرض تهدئة مشاعره، وربما كجرعة مورفين لهذا الجوار، ريثما يبلور الزمن قرارا بحل لقصة مملة لا حلول حالية لها على ما يبدو.

المصادر البشرية هي وحدها القادرة على تتبع البرامج النووية على الشاكلة الإيرانية، أما الاستطلاعات الإلكترونية فالفائدة المتوخاة منها تبقى شكلية، وأشك في قدرة الحصول على معلومات عن الحلقات المتقدمة للتطوير النووي إلا في حالات استثنائية، ويبقى الحديث عن المتابعات التجسسية مجرد بالونات معنوية. ولا أظن أن الإيرانيين قلقون منها، ولا الجوار يتأثر بجرعة مورفين بعد الوصول إلى حالة الإشباع.

أما الصور الملتقطة للدبابات المحيطة بإدلب فتعطي تصورات واستنتاجات كثيرة، تستخدمها الإدارة الأميركية لإثبات عدم التزام النظام في سوريا بالمبادرات السلمية، وهو جهد يعكس حالة الفشل في اتخاذ قرارات لا أظن أن المعارضين السوريين يعولون عليها بعد مرور نحو ثلاثة عشر شهرا على الأحداث.

متابعة المجابهة الساخنة المستمرة بين الجيش النظامي والمؤسسات الأمنية من جانب، و«الجيش الحر» والجماعات المسلحة الأخرى، التي لم تعلن عن نفسها، من جانب آخر - تتطلب جهدا استخباراتيا واسعا ودقيقا ونشطا جدا، لأن المجابهة تمتد من الحافات الشمالية لسوريا إلى أقصى الجنوب، ومن الحدود العراقية شرقا إلى البحر المتوسط غربا. وهذا يتطلب توجيه عدة أقمار صناعية في يوم واحد وليس الانتقال من محور إلى آخر، لأن جبهة الاستطلاع لقمر واحد تبقى محددة برقعة محدودة لكل مهمة. وبما أن مدينة إدلب حظي متابعوها بيومي استطلاع متعاقبين، فإن المناطق الأخرى التي لا تقع ضمن خط الاستطلاع تتطلب متابعتها توجيه جهد مماثل، لا سيما أن التقييم الأميركي لقدرة الدفاع الجوي السوري، التي تحدث عنها رئيس الأركان الأميركي، تحتم التحفظ في إرسال طائرات استطلاع إلى مناطق تقع ضمن نطاق الدفاعات الجوية السورية.

ويقودنا هذا إلى أن منطقة الشرق الأوسط عموما، وسوريا تحديدا، أصبحت موضع الاهتمام الرئيسي لجهد الاستطلاع، وتسخير جهد الاستطلاع بكثافة لا يبنى إلا لخدمة اهتمامات عليا ترتبط باهتمامات القائد العام للقوات المسلحة رئيس الدولة. لكن، هل يعني هذا الكثير؟ الجواب الذي أقتنع به هو: لا. فأميركا بعد حربي العراق وأفغانستان أصبحت قواعد اتخاذ قرارات المشاركة في عمليات قتالية أكثر تعقيدا من أي وقت مضى، فضلا عن ما يرتبط بمجابهة تهديدات الأمن الوطني المباشرة. وقد لا حظنا في حرب إسقاط القذافي سياسة أميركية متخبطة ومترددة للغاية، ولولا الدوران البريطاني والفرنسي لكان القذافي اليوم رئيسا.

وفي كل الأحوال، فإن قيادات عربية - خليجية فاعلة (على قلتها) لم تعد تلتزم بالخطوط الأميركية، وهو تحول كبير في فلسفة اتخاذ القرارات يستند إلى تنامي القدرات الذاتية، استطلعت أميركا أم لم تستطلع!