الحسناء والذئاب

TT

شاهدت على «ناشيونال جيوغرافيك» برنامجا عن محمية للذئاب في ثلوج النرويج. المحميات أمر مألوف. ما ليس مألوفا أن مديرة المحمية وصديقة الذئاب، التي تخاطبهم وتدربهم وتقبلهم (لغويا تقبلّها)، سيدة شابة خارقة العذوبة والجمال. ذئاب في جرود الصقيع، لها أنياب كاسرة ومخالب تحفر بها الثلج وتصطاد بها الأيائل، تقترب بهدوء من هذه السيدة الشقراء، وتنحني أمامها، وتعطيها رؤوسها كي تداعبها.

من دون دقة علمية، أعتقد أن الدول الإسكندنافية هي أفضل دول العالم في أشياء كثيرة: في التزام القانون، في الخدمات الإنسانية، في نظام الضمان الاجتماعي، في معدلات النمو، في التسامح، في المشاركة، في مستوى المعيشة، في الطمأنينة الوطنية البعيدة المدى.

ولكن قبل أن تروض إسكندنافيا الذئاب بدأت بترويض نفسها. من المذهل أن يكون هؤلاء أحفاد الفايكنغ، أولئك القراصنة الذين نكدوا حياة أوروبا في القرن التاسع وحالوا دون قيام دولة القانون. كانوا بحارة مذهلي القوة والبراعة. يفاجئون البلدان من جهات غير متوقعة، فيسرقون وينهبون ويقتلون ويحرقون المكتبات ويدمرون المعالم. غزوا سواحل آيرلندا وبريطانيا، وحاولوا احتلال باريس التي تمكنت من صدهم. هدموا الممالك لكنهم أقاموا مكانها ممالك أخرى. وقد أسس روريك الروسي إمارة كييف التي انتهت إلى تأسيس الدولة الروسية التي حملت اسمه. وأعاد ويليام الفاتح تشكيل ما أصبح فيما بعد بريطانيا العظمى. وعندما انكفأ الفايكنغ إلى بلدانهم راحوا يبنون مع الوقت ما أصبح أحد أفضل تكتلات دول الأرض.

في ربيع 1941 كانت أوروبا كلها قد وقعت في قبضة هتلر وحلفائه، وهم (حتى ذلك الوقت) اليابان الإمبراطورية والاتحاد السوفياتي وألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية. دولة واحدة ظلت خارج القبضة؛ السويد المحايدة (وطبعا سويسرا المحايدة أيضا)، لكن هذه السويد كانت تدرك أيضا أن القوة هي أكبر ضمان للحياد. ولا تزال إلى الآن تملك سادس أقوى سلاح جوي في العالم. وينصرف أحفاد الفايكنغ اليوم إلى صناعة أشهر الهواتف الذكية وإلى تخزين الودائع للشعوب المقبلة.

وسواء نجحوا أو أخفقوا، فإن أحفاد القراصنة الذين نغصوا سلام أوروبا، هم أكثر الضالعين في سلام العالم وسلام الشرق الأوسط. وكما دفع الكونت برنادوت حياته في فلسطين دفع داغ همرشولد حياته ثمنا في أفريقيا. ولا عد للإسكندنافيين الذين أرسلوا مبعوثين دوليين إلى الشرق الأوسط. أما أشهر المسالمين بينهم فكان ألفريد نوبل الذي اخترع البارود ثم خصص كل ريعه لتشجيع السلام والخير. وها هم الآن يرسلون حسناواتهم لترويض الذئاب، غير البشرية.