من الحريات إلى الأقليات

TT

إن كان ثمة إيجابية تذكر لتعقيدات «الديمقراطية التوافقية» التي لا يزال اللبنانيون يعيشونها وسط أجواء «ربيع عربي» دام في جوارهم - فقد تكون في إيحائها لمعظمهم بأن الاستقرار الهش في بلدهم ما زال أفضل من «ربيع» جيرانهم، بعد أن أدت حملات القمع الدموية التي مارستها الأنظمة إلى تشويه الصور الأولية البراقة للانتفاضات الشعبية العربية.

لذلك، وفي أعقاب التجربة السورية المأسوية - وقبلها التجربتان الليبية واليمنية - يفضل الكثير من اللبنانيين استقرار بلدهم الهش على «ربيع» لبناني يصعب على أي فئة سياسية «اختطافه» والاستئثار به في ظل التشرذم المذهبي القائم في بلدهم.

ذلك لا يعني أن اللبنانيين ينعمون بأفضل نظام سياسي في العالم العربي. ولكن نظامهم الطائفي - المذهبي شكل (على قاعدة «داوني بالتي كانت هي الداء») سياجا واقيا من رياح «الربيع العربي» العاتية، رغم أن وضع لبنان المتعثر على كل الأصعدة دون استثناء، يرشحه لأن يكون حاضن أول «ربيع» ديمقراطي حقيقي في العالم العربي.

ولكن مشكلة لبنان أن تاريخه المعاصر يظهر أن فترات استقراره السياسي لم تكن يوما أكثر من فسحة التقاط أنفاس مؤقتة - كي لا نقول هدنة - بين حربين أهليتين. هذا الواقع يفرض اليوم على اللبنانيين تقديم البعد «التوافقي» في نظامهم على البعد «الديمقراطي» لتجاوز المرحلة الدقيقة التي يعيشونها - هذا إن جاز، أصلا، اعتبار «الديمقراطية التوافقية» نظاما يتعدى المفارقة الكلامية إلى المفارقة التاريخية.

القلق المزمن على مصير الوطن ظاهرة لبنانية يصعب إنكارها. وقد يكون أوضح مؤشر على استشراء هذا الشعور حرص ذلك العدد الضخم من اللبنانيين على الاحتفاظ بجواز سفر من «دولة ثانية» ضمانة لملجأ بديل عن الوطن.

على خلفية هذا الواقع السياسي والنفساني في آن واحد، لا بد من التساؤل: لمصلحة مَن تجري زعزعة الاستقرار اللبناني في هذه الظروف الصعبة؟

عودة مسلسل الاغتيالات إلى الساحة السياسية في لبنان وسط أجواء استقطاب سياسي حاد لا يخلو من اصطفاف مذهبي الدوافع - بات يذكّر بالأجواء المحتقنة التي سبقت اندلاع الحرب الأهلية في سبعينات القرن الماضي ومهدت لها. والاستقطاب الطائفي الراهن لا يعزز فقط حقيقة أن لبنان لا يمكن أن يكون «بمنأى» عن متاعب المنطقة مهما «نأى» بنفسه عنها بقدر ما يوحي بأن جهة ما تحاول افتعال فتنة تعيد اللبنانيين إلى متاريس الحرب الأهلية.. وتستغل إعلاميا للإطاحة بما تبقى من مصداقية ديمقراطية لانتفاضات الربيع العربي.

إلا أن اللافت في الروايات الأخيرة عن عودة محتملة لمسلسل الاغتيالات أن هذا المسلسل يستهدف، بشكل أساسي، رموزا للأقليات الدينية في لبنان (ادعاء جماعة متشددة أنها تلقت «عرضا» لاغتيال وليد جنبلاط والكشف عن محاولة اغتيال فاشلة لسمير جعجع).

هل جاء «دور» لبنان ليشتعل بفتنة طائفية في عصر «الربيع العربي»؟

احتمالات هذا السيناريو واردة، ولكنها لا تبدو واعدة لمريديها، فحتى إشعار آخر لا تعتبر المعطيات الداخلية ولا الظروف الإقليمية مواتية لتحويل لبنان، من جديد، إلى ساحة حرب أهلية هدفها الرئيسي قلب أولويات المنطقة وإعادة تركيزها على المخاطر المحيقة بالأقليات الدينية لا المخاطر المحدقة بديمقراطية شعوبها وحرياتهم - أي السعي لتقديم موضوع مصير الأقليات على قضية مستقبل الحريات.

إلا أن هذه «المقايضة» تطرح في ظل معطيين غير مواتيين لتحقيقها انطلاقا من لبنان:

- معطى داخلي متمثل برجوح ميزان القوى العسكرية لصالح طائفة واحدة في لبنان، مما يحول دون مغامرة الطوائف الأخرى بخوض حرب مكلفة.

- معطى إقليمي مردّه انهماك الجهات الخارجية المرشحة لأن تلعب دور ممول الحرب الأهلية ومسلحها، في أزمات داخلية ومواجهات دولية تستنزف قواها ولا تتيح لها «التدخل» بحرية في لبنان.