الموقف الاستراتيجي للعرب في زمن الثورات

TT

عندما كتب إيف لاكوست دراسته عن «الجغرافيا السياسية لجنوب المتوسط» عام 2006 اعتبر أنّ تلك البلدان العربية/ الأفريقية الواقعة بين مصر والمغرب الأقصى، هي في حالة «سكونيةٍ نسْبيةٍ ومؤقتة»، وتتعرض لثلاثة تحديات: احتمالات التغيير السياسي الراديكالي من الداخل بسبب صعود الظاهرة الإسلامية، والتعرض لأخطار ومخاطر التخوم الأفريقية من جهة البحيرات والقرن الأفريقي ومنطقة الساحل، وعدم الانتظام في العلائق مع الغرب الأوروبي المتوسطي لأسبابٍ مختلفة. ومع أنّ التدخلية الأميركية كانت آنذاك في أَوجها؛ فإنّ لاكوست ما اعتبرها عاملا رئيسيا في التأثير والتغيير، بل لمّح إلى أنّ هذه التدخلية المنشغلة آنذاك بمنطقة شرق المتوسط والهضبة الإيرانية، إن ارتأت التدخل في جنوب المتوسط، فسيكون ذلك من طريق الأوروبيين أنفسهِمْ لانتمائهم إلى حلف شمال الأطلسي من جهة، ولأنّ التدخل الأميركي المباشر بالمنطقة ليس له مستقبلٌ لتأثُّره الشديد بالأَوضاع الأميركية الداخلية. وقد صحّتْ توقُّعات لاكوست في العامين الأخيرين، وإنْ ليس بحذافيرها. فالظاهرة الإسلامية تجتاح المنطقة العربية بالفعل، وليس منطقة جنوب المتوسط فحسب، وتُظهر التخوم الأفريقية لتلك المنطقة اضطرابا شديدا، كما أنّ الأميركيين تدخلوا بلطفٍ أو عنفٍ بالمنطقة إنما من طريق الأوروبيين.

ورغم شمول ظاهرة التغيير الإسلامي لمنطقة شرق المتوسط والهضبة الإيرانية فيما وراءها؛ فإنّ عوامل التأثير والتحديات الأخرى مختلفةٌ إلى حدٍ كبير. ويرجع ذلك إلى عدة أُمورٍ غير متوافرة في حالة بلدان جنوب المتوسط. ففي الأعوام العشرة الأخيرة تجدد الصراع أو تفاقم على أمن الخليج وموارد الطاقة وطُرُقها الاستراتيجية. ومع الدخول الأميركي العسكري إلى أفغانستان والعراق (2002 - 2003) ظهر «الشرق الأوسط الكبير» المتمثل إلى جانب الكيانات القائمة أو في مواجهتها، بإيران وتركيا وإسرائيل. وإلى جانب هذه الظواهر الكبرى البارزة، تجدد ملفُّ الوحدات الإثنية والدينية والجهوية مثل الأكراد والشيعة والعلويين والمسيحيين والإسلام السياسي السُنّي.

أين بدأت الحركة التي أدت إلى الموقف الراهن؟ هناك من يقول إنّ الأمر بدأ بإغارة «القاعدة» من أفغانستان على الولايات المتحدة. إنما الواقع الذي ترتبت عليه الآثار الاستراتيجية في المنطقة وعليها هو التدخل العسكري الأميركي في كلٍّ من أفغانستان والعراق، والعراق على الوجه الأخصّ. فالتدخُّل العسكري الأميركي بالعراق، ما غيَّر نظام الحكم هناك وحسْب، بل أحلَّ أيضا في السلطة المعارضة العراقية المسلَّحة الآتية من إيران وسوريا، وهي لا تزال تحكم العراق حتى اليوم. ولا شكَّ أنّ ذلك كان بترتيباتٍ مع إيران، بدليل أنّ الأميركيين مهَّدوا لذلك بهدم الدولة العراقية السابقة على الغزو وليس نظام الحكم الذي كان قائما هناك وحسْب. ولذلك فإنّ الأميركيين لعبوا دورين وليس دورا واحدا: الغزو للبلاد، وإحلال جماعات عراقية في الحكم إيرانية/ أميركية، وبتوافُقٍ مع إيران. وهناك ما يدلُّ على أنّ هذا التوافُق استمرّ بسائر أشكاله حتى عام 2007، ثم ببعض أشكاله الأساسية (إبقاء المالكي رئيسا للحكومة، أي حاكما للعراق بمقتضى الصلاحيات التي أعطاها الدستور الذي وُضع بإشراف الأميركيين) حتى خروج الأميركيين من البلاد عام 2011. لقد غيَّرت هذه الواقعة الوضع الاستراتيجي بمنطقة المشرق وجواره. فقد تمدَّدت السيطرة الإيرانية متطورةً عن سياسات مناطق النفوذ إلى وضع استراتيجي جديد، أثار بالطبع المخاوف ليس لدى شعوب المنطقة فقط، بل وأنظمتها في الخليج، وفي تركيا، وأثار بالطبع أيضا شهية إسرائيل، باصطناعه واقعا استراتيجيا جديدا زاد من ضعف العرب وإلغائهم شعوبا وأنظمة. وفي حين انصرف الإسرائيليون لمحاولة تصفية القضية الفلسطينية نهائيا، عمدت إيران بمقتضى وضْعها الجديد، إلى تثبيت هذا الواقع في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، والاعتراف لتركيا بشراكةٍ صُغرى في المسألة الكردية، وفي سوريا. وقد دفع ذلك الأمير سعود الفيصل للحديث في مؤتمر القمة العربية بمدينة سرت في ربيع عام 2010 عن حالة «الخواء الاستراتيجي» التي تُعاني منها الأمة العربية، نتيجةً للفعلَين: الغزو الأميركي للعراق، واستيلاء إيران على منطقة المشرق العربي استراتيجيا (تولّي أمر القضية الفلسطينية، ومحاولة الانفراد بأمن الخليج وممراته الاستراتيجية) وفعليا (وجود كتائب وجيوش لديها في العراق وسوريا ولبنان). وبحكم الأمر الواقع هذا كان على إيران التعامُلُ مع مسائل الأقليات الدينية والإثنية والجهوية - وعينها بالطبع على الأكثرية أو الأكثريات السنية التي اعتبرت التعْملُق الشيعي والعلوي والكردي والإسرائيلي موجَّها ضدَّها بالذات. إذ في الفترة نفسها (2003 - 2010) قُتل صدَّام حسين، مات الملك حُسين، وقُتل رفيق الحريري، وبدأ المسيحيون يتلاءمون مع الوضع الجديد، بينما ظلَّ الأكراد مطمئنين إلى الرعاية الأميركية، وإلى الوضع الجديد بالعراق بالتحالُف مع الحزبيين الشيعة الحاكمين في الدولة الجديدة.

ولذا فإنّ الثورات العربية التي بدأت متأخِّرةً بسبب الضغوط الهائلة من الأميركيين والإيرانيين والإسرائيليين، إنما اندلعت بعد تغيُّر السياسة الأميركية التدريجي، وبدأت في المناطق والدول التي كانت الأقلّ تعرضا للضغوط، في منطقة جنوب المتوسط. وبسبب علائق إيران الودية مع إسلاميي السنة في العقد الأخير؛ فقد أظهرت اطمئنانا إلى تلك الحركات الشعبية، ما لبث أن انتهى إلى قلقٍ عارمٍ عندما نشبت الثورة في سوريا، بؤرة نفوذها وسطوتها بالمنطقة، وحارسة تحالُف الأقليات لصالحها فيها. كان شعار الثورات الأول: الحرية والكرامة، ولذلك فقد بدا في وجهٍ من وجوهه داخليا، كما بدا في وجهٍ آخَر عربيا وشاملا، وبدا في وجهٍ ثالثٍ إسلاميا بحكم الضغوط الهائلة التي تعرض لها السنة بالذات من جانب الأميركيين والإسرائيليين والإيرانيين. وكما لم يفد طرفٌ غير إيران وإسرائيل من التدخل الأميركي؛ فإنه ما أفاد من التحرك الشعبي العربي والإسلامي من الأطراف الخارجية غير تركيا في المدى الاستراتيجي. أما المعنى العامّ والكبير لهذه الثورات فأمران: عودة الأكثرية إلى الشارع والمواقع العامة، والسعي لتغيير الوضع الاستراتيجي في منطقة جنوب المتوسط وشرقه.

لقد انتقل الوضع الاستراتيجي بالمنطقة بعد نهاية الحرب الباردة إلى قبضة الهيمنة الأميركية الأَوحدية. ووسط الضغوط الهائلة لواقع الهيمنة، تصاعد الغضب الأكثري من الولايات المتحدة وبخاصةٍ بعد حرب الخليج الثانية. وهكذا تصدّى الإسلاميون المتشددون للولايات المتحدة ولإسرائيل منفردين تقريبا. وقد رأت الولايات المتحدة من مصلحتها في هذا الواقع الجديد، التحالُف مع إيران والأقليات التابعة أو الخاضعة لها، في وجه هذا «الإسلام المتطرف». بيد أنّ الواقع الثوري العربي الجديد، شكّل ردّة فعلٍ شعبية واسعة، بحيث جرى تجاوُزُ نوافر الأصولية المتشددة، والصيرورة إلى التغيير الاستراتيجي بدلا من الهجمات الانتحارية. وقد أدرك الأميركيون والأوروبيون ذلك فأقبلوا بعد تردُّدٍ لأسابيع، إلى الترحيب بحركات التغيير؛ في حين انتهت إسرائيل وإيران إلى مواجهتها، وتركيا إلى الإفادة منها. وأيا يكن أو تكن مواقف السعودية ودول الخليج من حركات التغيير في الشهور الأُولى؛ فإنها أدركتْ أهمية وفائدة ما يحصُلُ في الشارع على المجرى الاستراتيجي العام، وسط تعمْلُق إيران وإسرائيل في سائر البقاع العربية المشرقية. إنّ هذا التحرك هو في وجهٍ من وجوهه سعْي حثيثٌ لتحقيق «ملاءمة استراتيجية» افتقدتْها المنطقة منذ قرابة العقدين. ومن هنا جاءت مساعي مجلس التعاوُن الخليجي للتعامُل مع مشكلات البحرين واليمن وليبيا وسوريا. فقد اتجهت هذه المساعي والجهود لدعم إنجاز التغيير، واستعادة الاستقرار، على خلفية القُدُرات التي ظهرت من جانب الشعوب التي تتحرر بسقوط الأنظمة المرتَهَنة من السيطرة والاستقطاب، ومن الاستنزاف في الحروب الطويلة الأمد.

وليس من المنتظر أن تتخلَّى إيران عن «المحور» الذي بنتْهُ لبنةً لبنةً في نحو العقدين. لكنّ الوضع السابق للهيمنة ثم للاستقطاب لن يعود. على أنّ التغيير الاستراتيجي الذي بدأت معالمُهُ تظهر ما اُنْجِزَ بعد. ولا يرجع ذلك للمقاومة الإيرانية والإسرائيلية فقط؛ بل لأنّ الفئات أصحاب المصلحة في الوضع السابق، لا يُظهرون استعدادا قويا للتخلّي عمّا كسبوه بغياب الأكثريات من جهة، وبسبب الوجه الإسلامي الظاهر لحركات التغيير من جهةٍ ثانية. إنه زمنٌ جديدٌ له مشكلاته وقضاياه وإشكالياته بالطبع، لكنه يبقى زمنا جديدا.