التكلفة الباهظة للمضاربة في النفط

TT

يعتبر الارتفاع الهائل في سعر النفط والغازولين بصورة جزئية بمثابة نتيجة للقوى الخارجة عن نطاق سيطرتنا؛ فمع زيادة دول عالية النمو، مثل الصين والهند، الطلب على البترول، ترتفع الأسعار.

غير أن ثمة عوامل تسهم في ارتفاع سعر النفط يمكننا أن نتصرف حيالها. ومن بين أبرز هذه العوامل تأثير المضاربين في العقود الآجلة - المستثمرين الذين يشترون ويبيعون عقود النفط الآجلة، لكنهم لا يتملكون بشكل فعلي براميل نفط حقيقية. ومثل هؤلاء الوسطاء يضيفون قيمة ضئيلة وكما هائلا من التكاليف، من خلال مزايدتهم على سعر النفط سعيا للكسب المالي. ويجب منعهم من المضاربة في بورصات السلع في العالم، الأمر الذي يمكن أن يتسبب في خفض سعر النفط بنسبة 40 في المائة وسعر الغازولين بقيمة دولار واحد للغالون.

واليوم، يهيمن المضاربون على عملية تداول عقود النفط الآجلة. وبحسب شهادة أمام الكونغرس من قبل المتخصص في قطاع السلع، مايكل دبليو ماسترز في عام 2009، فإن أسواق عقود النفط الآجلة تتداول بشكل منتظم أكثر من مليار برميل نفط يوميا. وبالنظر إلى أن العالم بأسره ينتج نحو 85 مليون برميل نفط «حقيقي» يوميا، فإن هذا يعني أن أكثر من 90 في المائة من عمليات التداول تشمل تبادل براميل «ورقية» بين البورصات وبعضها.

وبسبب المضاربة، فإن أسعار النفط التي تقدر اليوم بنحو 100 دولار للبرميل لم تعد مرتبطة بتكاليف الاستخراج، والتي تقدر بنحو 11 دولارا للبرميل الواحد على مستوى العالم. يسهم المضاربون في عقود النفط الآجلة بنسبة 40 في المائة في ذلك السعر المرتفع، بحسب شهادة أدلى بها ريكس تيليرسون، الرئيس التنفيذي لشركة «إكسون موبيل»، العام الماضي. ويعزز ذلك التقدير تقرير صادر مؤخرا عن مصرف الاحتياط الفيدرالي في سانت لويس. يزعم الكثير من الاقتصاديين أن المضاربة في عقود النفط الآجلة أمر إيجابي، نظرا لأنه يؤدي إلى زيادة السيولة وتوزيع المخاطر بصورة أفضل، على نحو يسمح لشركات تكرير النفط والمنتجين والبائعين بالجملة والعملاء (مثل شركات الطيران) بـ«تغطية» مراكزهم بشكل أكثر فاعلية، من خلال تأمين أنفسهم ضد التقلبات المستقبلية في سعر النفط.

غير أن هناك اختلافا بين امتلاك نظام تداول يقوم فيه المشاركون الرئيسيون في قطاع النفط بمراهنات استراتيجية على اتجاه أسعار النفط خلال عدة أشهر مستقبلية، وامتلاك نظام يضخ من خلاله صناديق التحوط والمصرفيون مليارات من دولارات المضاربة في بورصات السلع، متتبعين عددا محدودا من البراميل، ومتسببين في ارتفاع سعر النفط. ويفسر موطن الخوف نفسه سبب فرض حكومة الولايات المتحدة قيودا على المضاربين في العقود الآجلة في بورصات الحبوب عقب عمليات تلاعب متكررة في أسعار الحبوب أثناء فترة «الكساد الأعظم».

وتختلف سوق عقود النفط الآجلة عن أسواق السلع الأخرى من حيث الحجم الكلي ونطاق التداول ومدى التأثير على مصدر مهم استراتيجيا. ثمة اختلاف جوهري بين عقود النفط الآجلة وعقود عصير البرتقال الآجلة، على سبيل المثال. فإذا ما ارتفع سعر عصير البرتقال بصورة مفرطة (ربما بسبب فقاعة مضاربة)، يمكننا أن نتحول بسهولة إلى نوع آخر من العصير مثل عصير التفاح. غير أن تلك القاعدة لا تنطبق على النفط. فارتفاع أسعار النفط يخنق الاقتصاد، عن طريق خفض أرباح الشركات والمؤسسات العادية وتقليص الاستثمارات.

عندما بدأت شراء وبيع النفط منذ أكثر من 30 عاما لصالح مؤسستي غير الهادفة للربح، لم تكن المضاربة جانبا مؤثرا من جوانب الصناعة. لكن في عام 1991، بعد بضع سنوات من بدء تداول العقود الآجلة في بورصة نيويورك التجارية، اقترح مصرف «غولدمان ساكس» على هيئة تداول السلع الآجلة أن متداولي وول ستريت الذين يقومون بمراهنات ضخمة على النفط يجب اعتبارهم مراهنين قانونيين ومنحهم إعفاء من القيود التنظيمية المفروضة على عمليات التداول التي يقومون بها.

ومنحت الهيئة إعفاء سمح في نهاية المطاف لمصرف «غولدمان ساكس» باستثمار مليارات الدولارات في المضاربة في عمليات تداول النفط. وتبعتها إعفاءات أخرى. وفي عام 2008، مثلت ثمانية مصارف استثمار نسبة 32 في المائة من إجمالي سوق عقود النفط الآجلة. وبحسب تحليل آخر أجراه ماكلاتشي، فإن 30 في المائة فقط من متداولي عقود النفط الآجلة يعتبرون مشاركين فعليين في قطاع النفط.

وقد تحرك الكونغرس سريعا حينما أيقن من المراقبة الضعيفة من قبل هيئة تداول السلع الآجلة. وفي أعقاب الأزمة الاقتصادية، تطلب قانون «دود فرانك» لإصلاح وول ستريت قدرا أكبر من الشفافية في عمليات التداول وفرض قيودا على المضاربين الذين افتقروا إلى غرض مشروع لتغطية مراكز لا تزيد على 25 في المائة من سوق العقود الآجلة.

تعتبر هذه خطوة مهمة، لكن تقييد المضاربين في أسواق النفط لم يحقق القدر الكافي من النجاح. فحتى مع القيود المفروضة حاليا، بإمكان مصارف الاستثمار الثمانية وحدها أن تتسبب في رفع سعر النفط بشكل حاد. يجب أن تمنع التشريعات الفيدرالية المضاربين في النفط الخام تماما من التداول في بورصات البضائع في الولايات المتحدة. وعلى الولايات المتحدة توظيف سلطتها من أجل حمل الأسواق الأوروبية والآسيوية على أن تحذو حذوها، بتعقب المضاربين في النفط بأسواق السلع بشتى أنحاء العالم.

إن إلغاء المضاربة في عقود النفط الآجلة مسألة عدالة. وينحصر الاختيار ما بين عالم من متداولي صناديق التحوط الذين يحققون أرباحا طائلة على حساب أفراد الشعب الذين هم في حاجة إلى قيادة سياراتهم وتدفئة منازلهم، وعالم تظل فيه أساسيات الحياة (الغذاء والمسكن والرعاية الصحية والتعليم والطاقة) متوفرة بسعر معقول للجميع.

* خدمة «نيويورك تايمز»