قدرات المرضى على الفهم وتقليل احتمالات الوفيات

TT

يرتبط نجاح تقديم العناية الطبية بمنظومة معقدة من العوامل، وحينما يتساءل العاملون في الأوساط الطبية عن أسباب إخفاقهم في إنقاذ أرواح بعض الناس أو فشل وسائل المعالجة في تخفيف معاناة مرضاهم، وتُطرح التساؤلات تلك بالقول «أنّى هذا؟» فإن الإجابة ربما تكون «في جوانب كثيرة هي من عند أنفسكم».

ما على الأوساط الطبية أن تدركه جيدا هو أنها تتحمل مسؤولية العناية بصحة الناس وتتحمل مسؤولية معالجة المرضى منهم. وشعور الطبيب أو الصيدلي أو الممرض بأنه تحمل مسؤوليته بكفاءة وأدى أمانة تقديم واجباتها لا يكون بمجرد قيام الطبيب بفحص مريضه ومراجعة نتائج فحوصاته وكتابته لوصفة قائمة الأدوية وإجرائه عمليات جراحية معقدة لقلب المريض أو دماغه أو جهازه الهضمي. كل هذه جهود ضرورية وتقديمها أساسي في نجاح المعالجة، ولكنها ليست هي فقط العناصر التي يضمن تحقيقها حصول نجاح المعالجة وإنقاذ حياة المريض وإزالة المعاناة عنه.

إن علاج المرض ليس «سلعة» موضوعة على الرف في عيادة الطبيب، يُقدم المريض ثمنها نقدا للطبيب كي يقتنيها المريض مباشرة ويأخذها معه إلى البيت، أسوة باقتناء السيارة مثلا، بل إن المعالجة عملية شراكة تتطلب بيئة وظروفا ذات عناصر متعددة لضمان النجاح في الحصول على الصحة والعافية.

هذه حقيقة علينا استيعابها وفهم أبعادها. ومن أبعادها التي لا تُلقي لها الأوساط الطبية الاهتمام اللازم، إشراك المريض في القرارات العلاجية والوقائية. وما يغيب عن ذهن الكثيرين في الأوساط الطبية، أن المريض إذا لم يفهم طريقة المعالجة أو دواعي تناول مجموعات الأدوية أو أسباب الحاجة إلى إجراء فحوصات طبية معينة أو درجة أهمية الخضوع لعملية جراحية ما، فإن كل جهود المعالجة ستذهب هباء لتأتي رياح عوامل شتى كي تذروها وتغدو هباء منثورا.

وأحد أساسيات عناصر تقييم الطبيب لمريضه تقييم مدى قدراته على المعرفة ومدى امتلاكه وسائل تُمكنه من الفهم، وخاصة قدرات الكتابة والقراءة واستيعاب المعلومات الصحية حينما تُقال له بلغة بسيطة، وهو ما يُعبر عنه طبيا بـ«المعرفة الصحية» health literacy، وهذا العنصر التقييمي للمريض تُوليه عناية متميزة مجموعة برامج تطوير جودة الخدمات الطبية المقدمة للمريض، وتذكر الأطباء تحديدا بأهميته تحت عنوان «التثقيف الصحي للمريض وعائلة المريض»، والمقصود أن يتأكد الطبيب من فهم واستيعاب المريض للمعلومات الصحية كي يتبع ويلتزم بخطوات خطة المعالجة.

وفي 16 مارس (آذار) الماضي نشرت المجلة الطبية البريطانية «BMJ» نتائج دراسة الباحثين من جامعة يونيفرستي كولدج في لندن، لتتبع مدى تأثيرات ضعف قدرات «قراءة وفهم المعلومات الصحية» لدى المرضى على احتمالات ارتفاع معدلات الوفيات. وشملت الدراسة 8 آلاف مريض ممن تجاوزت أعمارهم 52 سنة. وتم تقييم مستوى قدراتهم على قراءة وفهم المعلومات الطبية البسيطة جدا ذات الصلة بحالته الصحية، مثل فهم تعليمات الطبيب حول ضرورة تناول الأسبرين يوميا. ولم يتناول البحث فهم أمور صحية معقدة كمتابعة ضيق أحد صمامات القلب أو مراحل تلقي علاج أورام الغدد اللمفاوية.

وتبين للباحثين أن نحو 35 في المائة منهم لم يتمكنوا من فهم التعليمات تلك حول الأسبرين بالشكل اللازم. ووفق نتائج تقييمهم تم تصنيف المشمولين بالدراسة إلى ذوي قدرات عالية وقدرات منخفضة في قراءة وفهم المعلومات الطبية. وعند متابعة الباحثين لجميع المشمولين بالدراسة، ولمدة 5 سنوات، تبين أن الوفيات بلغت 16 في المائة بين فئة ذوي القدرات المنخفضة للفهم مقارنة بنسبة 6 في المائة بين فئة ذوي القدرات العالية للفهم. وأن احتمالات الوفاة ترتفع بنسبة الضعف لدى ذوي القدرات المنخفضة مقارنة بذوي القدرات المرتفعة للفهم واستيعاب تعليمات الأطباء.

ووفق تعريف المؤسسة القومية للصحة (NIH)، التابعة لوزارة الصحة والخدمات البشرية بالولايات المتحدة، فإن «المعرفة الصحية» Health literacy هي درجة قدرة المرء في الحصول على أو فهم المعلومات الصحية الأساسية اللازمة لكي يتخذ القرارات السليمة للعناية بصحته. وأضافت أنها تعتمد على عدة عوامل، من أهمها مهارات التواصل بين الإنسان العادي والمتخصص الطبي. كما تُعرف «اللغة البسيطة» اللازم استخدامها في حديث الطبيب مع المريض بأنها استراتيجية لجعل المعلومات المكتوبة أو المقروءة سهلة وقابلة للفهم. وعناصر اللغة البسيطة التي على الأطباء إدراكها هي ترتيب الطبيب للمعلومات في ذهنه كي يعرض الأهم ثم الأدنى أهمية، وتفتيت المعلومات المعقدة إلى قطع يسهل دخولها إلى ذهن الإنسان العادي غير المتخصص في الطب، واستخدام عبارات بسيطة في وصف المصطلحات الطبية المعقدة، واستثمار القدرات الصوتية لجذب انتباه فهم المريض.

إن مشكلة تدني قدرات فهم الإنسان العادي للمعلومات الصحية هي مشكلة عالمية، ولا علاقة لها بالتقدم العلمي في بلد ما. وفي الولايات المتحدة تحديدا، ووفق إحصائيات التقييم القومي للمعرفة الصحية National Assessment of Adult Literacy، فإن 12 في المائة من البالغين بالولايات المتحدة فقط يُمكن تصنيفهم بأنهم ماهرون في الفهم الصحي. وهو ما علقت عليه نشرات المؤسسة القومية للصحة بالقول: «معناه أن تقريبا 9 من بين كل 10 أشخاص بالغين في الولايات المتحدة ربما يفتقرون إلى المهارات اللازمة للعناية بصحتهم ووقاية أنفسهم من الإصابة بالأمراض».

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]