حرّ السجون والمنافي

TT

في زمنه، كان النضال يبدأ في سن الخامسة عشرة.. وفي زمنه، كان المناضل يخرج من السجن إلى الرئاسة. ولما تحول الزمن من زمن التحرير والحرية والاستقلال، إلى زمن العسكر، انتقل أحمد بن بللا من الرئاسة إلى السجن، ولم يخرج إلا بعد وفاة سجانه، العقيد هواري بومدين.. ومن هناك إلى المنفى، فلم يسمح لبطل الاستقلال وأول الرؤساء، أن يبقى في الأرض التي من أجلها سجنه الفرنسيون ومن أجلها نفوه.

عقد في السجن الفرنسي وأكثر من عقد في السجن «الوطني»، أو السجن العربي الذي استقبل رجال الحرية وأبطال الاستقلال.. ولا تسل عن المنفى. هنا في جنيف، طالما كنتُ أشاهد أحمد بن بللا، وأول رفاقه في الثورة، حسين أمين أحمد، والدكتور أحمد طالب الإبراهيمي. هنا، في هذه المدينة، كان يمكنك أن تشاهد أجيالا وطبقات من المنفيين العرب، ومن المبعدين الآخرين، يجلسون على ضفاف البحيرة.. فيعود بن بللا متجاوزا الثمانين، ويعود صائب سلام مشارفا على التسعين، ويبقى كثيرون بلا عودة، يتأملون سكون البحيرة عند «ميناء النوارس».

كان أحمد بن بللا صف ضابط في الجيش الفرنسي يحمل وسام الشجاعة من شارل ديغول شخصيا. ولست أذكر مَن مِن رفاقه الأوائل كان موظف بريد.. كل ذلك لم يكن مهما، المهم كان الحرية.. لم يثقوا فقط بذواتهم البسيطة؛ بل وثقوا، خصوصا، بالناس والبسطاء والفلاحين، الذين يشبهون والد بن بللا، المغربي الأصل.. كان ذلك قبل أن تغلق الحدود بين الجزائر والمغرب، حين كان بن بللا يتنقل سرا بين البلدين وتونس، ويجمع البنادق ويهربها إلى الرفاق.

ما من حلم كان أكبر من صاحبه في تلك الأيام. سقط الحلم فقط عندما حل النظام الوطني. تباعد الرفاق وتلاصقت جدران السجون، وأقيمت منصات الإعدام بالرصاص، وقبل أن يسقط عبد الكريم قاسم في دمائه في استوديو الإذاعة، تطلع في عبد السلام عارف، متسائلا في صمت ما قبل الموت: هل هكذا تنتهي الأشياء؟

لم يجب الرجل الضخم، لأنه كان يعرف أن هكذا تبدأ الأشياء.. تلك كانت بدايات النظام الثوري العربي في كل مكان. على الأقل بن بللا لم يسقط برصاصة مثل محمد بن خيضر، أو برصاصة من الخلف مثل الرئيس الحزين الملامح محمد بوضياف، أو لم تعفن جسده عفونة الجدران في سجون العراق وسوريا ومصر.

تزوج بطل استقلال الجزائر وهو في الإقامة الجبرية، وتبنى ابنتيه وابنه وهو في المنفى، وأمضى في الرئاسة عامين، وبقية العمر نضال وسجون ومَنافٍ.. وفي حزنه على منفاه، فقد بوصلة الرؤساء، فقبل ملجأ معمر القذافي وصدام حسين. بداية لا مثيل لها في حرب الحريات، ونهاية لا تليق بتاريخ صاحبها.