اليابانيون يسبقون المسلمين إلى تطبيق مبادئ الإسلام!

TT

عام 1993 اقترحنا في هذا المكان من هذه الجريدة: إعداد سفينة «كونية» ضخمة تجوب موانئ العالم كله، وتنتظم ركابا من الأجناس واللغات والبيئات البشرية كافة، والأديان جميعا، وأن تُزَوَّد هذه السفينة العملاقة بقاعات كبيرة متنوعة مزودة بشاشات وآليات شرح وتعريف.

والهدف الأعظم من فكرة هذه السفينة العملاقة هو «التعارف بين البشر أجمعين».

ولما كان المسلمون آخر من يستيقظ من النوم - كعادتهم في التخلف - فقد سبق اليابانيون إلى تنفيذ هذه الفكرة.. ففي الأسبوع الماضي رست سفينة يابانية في ميناء جدة في المملكة العربية السعودية، وهي سفينة تتجول في موانئ العالم بهدف «التعارف الإنساني» بين الناس أجمعين.

ولسنا حزانى على أن ينهض بهذه المهمة شريحة منا نحن الناس وهم اليابانيون. فما طبيعته وهدفه إنساني يمكن أن يقوم به أي إنسان، ويكون قيامه بذلك مصدر ابتهاج، ومبعث شكر وثناء من الناس جميعا.

بيد أننا كنا نطمع أن ينهض بتنظيم هذا المهرجان الكوني التعارفي مسلمون بادئ ذي بدء.

لماذا؟

لأن الكتاب الذي يؤمنون به قد أصّل «منهج التعارف الإنساني».

إن السفينة اليابانية رست في ميناء جدة، أي بالقرب من مكة المكرمة.

وفي مكة تنزل قرآن:

1 - يعلن وحدة الجنس البشري: «خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها».

2 - ويعلن تنوع «الجغرافيا البشرية» ذات الأصل والمنشأ الواحد: «ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون. ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين».

فمن التراب انبثقت مكونات الإنسان المادية: لم يشذ عن هذه القاعدة الكلية الأصلية أحد من الناس حتى أولئك الذين انتفخوا بـ«العنصرية»: فلسفة وسلوكا.

ومن آدم وحواء تناسل البشر كلهم، فهم - من ثم - من منشأ بشري واحد، كما أنهم من منشأ مادي واحد.

وهذه «الوحدة البشرية» الأصلية «متنوعة» في ألوانها ولغاتها.. وهذا التنوع آية من آيات الله الكونية، ولا يجوز الاحتجاج بهذا التنوع على «العنصرية»: «ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين» - جمع عالِم بكسر اللام -، أي الذين يعلمون حقائق هذا التنوع وحكمته وسماحته، ويعلمون أن الله جل شأنه أراد أن يكون المشهد البشري متنوعا، لا نسخة واحدة مكررة.

وهذه هي «التعددية الكونية الحقة»: الأثبت والأرحب.. وإنه لمن الجهالة وضيق الأفق حصر التعددية في - وجود أحزاب في هذا المجتمع أو ذاك.

فتعددية الأعراق والألوان واللغات إنما هي «تعددية عالمية». وهي بوصفها هذا تواجه مخاطر ثلاثة عصيبة في عصر ما يسمى بـ«العولمة» نفسه!!

أ - خطر الذوبان وفقدان الهوية من قِبَل الكسالى وفاقدي الكرامة الذين يريدون أن ينوب عنهم الآخرون في كل شيء دون أن يسألوا أنفسهم: لماذا هم موجودون أصلا؟!

ب - خطر الجمود على الفواصل الحجرية، والتمايز المبالغ فيه من جهة الذين يتصورون أن الانفتاح على العالم: إلغاء لوجودهم.

ج - خطر انفراد ثقافة اجتماعية وسياسية وحضارية واحدة بالسيادة والوجود. وكأن ليس في الكون إلا أصحاب هذه الثقافة!

هذه هي المرجعية الأم في فهم المشهد البشري والتعامل السوي معه، وهي مرجعية تقوم على الأسس التالية: أساس وحدة الجنس البشري.. وأساس تنوع الأعراق واللغات.. وأساس تعدد الشرائع والمناهج «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا».. وأساس كرامة الإنسان: كل إنسان.. وأساس «التعارف الإنساني» المفضي إلى الحوار والتعاون - بداهة -.

ولنتوسع بعض التوسع في أساس التعارف حيث إنه هو ركيزة هذا المقال الذي يتناول سفينة التعارف الإنساني اليابانية.

فكما تنزل قرآن - في مكة - يعلن وحدة الجنس البشري، وتنوع هذه الوحدة: تنزل في المدينة قرآن يدعو الناس - جميع الناس - إلى التعارف - : «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا».

جعلناكم شعوبا متعددة، وقبائل متنوعة لتعارفوا، لا لتتناكروا، ولتتفاهموا - كثمرة للتعارف - لا لتتقاطعوا، ولكي تتسالموا - بناء على التعارف والتفاهم - لا لتتقاتلوا وتتحاربوا.. وجعلناكم شعوبا وقبائل لكي ينفتح بعضكم على بعض، لا لكي تضعوا حواجز وأسلاكا شائكة تفصل بينكم.

بمقتضى هذا المنهج الإنساني العام (منهج التعارف بين البشر) جميعا كان يتوجب على المسلمين: أن يتقدموا مسيرة التعارف البشري هذه، بيد أنهم فرطوا في حمل هذه الرسالة، وهو تفريط تفرعت منه خطايا ثلاث جسيمة.

أولا: خطيئة معصية أمر الله في شأن التعارف الإنساني. فهم «جزء» من الناس الذين خوطبوا بآية الحجرات الآنفة، فكان يجب عليهم أن ينهضوا بمهمة التعارف الإنساني، وأن يكونوا طلائعه على مستوى الكوكب كله، وكان يجب عليهم ذلك لأنهم هم الذين خوطبوا - بادئ ذي بدء - بالقرآن الذي انتظم آية التعارف.. والضميمة الثالثة: أن ليس لدى الناس جميعا منهج كهذا: لا في فلسفاتهم، ولا دساتيرهم.

ثانيا: الخطيئة الثانية: أنه قد ترتب على هذا التقصير الشنيع: استفحال «العنصريات» في عالمنا الإنساني. فمن أفتك الأوباء التي اجتاحت البشر في التاريخين: القديم والحديث - : «وباء العنصرية».. ويكفي للدلالة على ذلك ضرب مثلين اثنين فحسب.. مثل الحكم العنصري الغليظ الهمجي في جنوب أفريقيا.. ومثل العنصرية النازية التي تسببت في حرب طاحنة قتلت عشرات الملايين في أوروبا وغيرها، ودمرت القارة تدميرا وبيلا.. ذلك كله جرى بدافع «ألمانيا فوق الجميع»، أي إن العرق الألماني فوق كل الأعراق الأخرى بلا استثناء!!.. وبديه أن هتلر وحزبه استمدوا هذه الفلسفة العقيم الزنيم الرجيم مما كان يموج به الفكر الأوروبي في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.

ثالثا: الخطيئة الثالثة الجسيمة: أن تقصير المسلمين في حمل رسالة «التعارف الإنساني» تسبب في اتهامهم بمعاداة أو إقصاء «الآخر». وهي تهمة سببها تقصير المسلمين أنفسهم، لا المنهج الذي يحملونه وهو الإسلام «كما يدعي جهال وخبثاء من جلدتنا ومن غير جلدتنا».

فحقيقة الأمر: أن منهج التعارف الإنساني الذي هتفت به الآية (13) من سورة الحجرات يدعو إلى الانفتاح على الآخر بالتعارف والتفاهم، وليس يدعو إلى إقصائه قط.. ومن هو هذا الآخر: أهو الكوري أم الصيني أم الأميركي أم الفرنسي أم الياباني؟.. إن هؤلاء جميعا ناس داخلون في خطاب «يا أيها الناس....»، ولا يحل لمسلم: أن يقصي أحدا من هؤلاء الناس، ولا أن يتناكر معه ويتنكر له.. لماذا؟. لأن من يفعل ذلك يخالف القرآن، ويعصي منزل القرآن تباركت أسماؤه، إذ القرآن صريح في الدفع إلى التعارف مع الناس جميعا، مع السبعة مليارات إنسان هم سكان الكوكب اليوم.