قد تفلس الدولة ولكن المصريين لا يفلسون

TT

هل تتعرض الدولة المصرية للإفلاس؟ سؤال موجع للقلب أطلقه الأربعاء الماضي الزميل عادل الطريفي، زميلي وجاري في الصفحة. وبحثا عن إجابة شبه مقنعة, أقول: نعم.. ولكن المصريين لا يفلسون.

المصريون مدربون على الدفاع عن أنفسهم, ليس في مواجهة أعدائهم, فالشعوب كلها مدربة على ذلك, بل في مواجهة حكامهم. فعبر مئات السنين وربما آلافها, كانوا يمارسون ليل نهار عملية الدفاع عن أنفسهم ضد حكامهم بكل ما تتطلبه من حذر وخداع ويقظة وخطط استراتيجية بديلة، بما في ذلك اقتصاد لا يعرف الحكام أوله من آخره. ولذلك علينا أن نفصل بصرامة بين اقتصاد الدولة واقتصاد الشعب المصري. فالعلاقة بينهما ليست علاقة احتواء أو اشتمال كما يقول المناطقة، بل هي علاقة تضاد.

والمصريون في حالتهم الطبيعية منتجون, لأنهم في الأصل شعب من الفلاحين والبنائين والمشتغلين بعلوم الدين, غير أنهم لا يجيدون التجارة, لذلك ستجد الأسماء الكبيرة في عالم التجارة, غالبا من الوافدين على الوادي. ولعل ذلك هو السبب في أنهم في سبعينات القرن الماضي في مرحلة الانفتاح الاقتصادي, عجزوا عن التمييز بين أصول التجارة وقواعد القرصنة, ففشلوا في كليهما.

وإذا كانت كل حكومات الدنيا مسؤولة عن توفير الطعام والكساء وبقية احتياجات الشعب, فإن الشعب المصري هو الوحيد فوق الأرض الذي يتحمل المسؤولية كاملة عن إطعام حكامه وكسائهم وسكنهم ورفاهيتهم. كانت هذه هي القاعدة على الأقل منذ سياسة التأميمات في بداية ستينات القرن الماضي. بالطبع كانت الاشتراكية تحتم ذلك, ولكني أعتقد أن السبب الحقيقي الغاطس في أعماق اللاوعي هو أن الحكام اكتشفوا أن الشعب لا يعطيهم ما يكفيهم أو ما لا يتكافأ مع متاعبهم في حكمه، ولذلك قرروا أن يضعوا أيديهم على أملاكه بطريقة مباشرة تتيح لهم حياة أكثر قربا من النعيم, وتعطيهم الفرصة للقيام بالمزيد من المغامرات المكلفة. ودخل المصريون اللعبة معهم بخبرتهم الطويلة, ثم قاموا بحركة التفاف واسعة وبطيئة حول هذه الممتلكات المؤممة أو المصادرة, ثم أخذوا ينزعون عنها الشحم واللحم ويمضغونها على مهل ثم تفرغوا لسنوات طويلة لمصمصة عظامها, وفي كل عام وكل ميزانية جديدة كانت الحكومة مكلفة بإعادة كسائها باللحم والشحم من جديد.

من أين كانت تأتي الفلوس التي لا بد من إنفاقها على القطاع العام وبقية مؤسسات الدولة؟

لم تكن تأتي من مكان بعيد, كانت تأتي طازجة من المطبعة إلى المستهلك مباشرة, بالطبع بعد استهلاك القروض والمنح المتاحة. في ذلك الوقت البعيد لم يكن مسموحا لمصري بالخروج من البلاد, كان مسموحا فقط لأعضاء البعثات الدراسية, والعاملين في الهيئات الأجنبية, وفي المطار كان من السهل قراءة نظرة ضباط الجوازات والجنسية, هي نظرة كلها شك واتهام: «مسافر ورايح فين يا وغد؟ سايب الوطن ورايح فين يا عديم الوطنية؟».

وبعد هزيمة 1967 كان لا بد من السماح للمصريين بالسفر للخارج للعمل وإرسال الأموال الكافية، ليس لإطعام عائلاتهم فقط، بل لإعالة حكامهم, وهو ما يحدث حتى الآن. ثم اكتسب المصريون شعبا جديدا يسمى «المصريين في الخارج»، وخوفا من أن ينسوا انتماءاتهم (يعني حكامهم)، حدث المزيد بالاهتمام بهم، للدرجة التي جعلت الحكومة تقيم لهم وزارة ووزيرا مختصا بشؤونهم. ولكن المصريين أيضا بخبرتهم الطويلة كانوا حريصين على الابتعاد عن هذه الوزارة وهذا الوزير, بمعنى أدق لم يأخذوها على محمل الجد, فأنت تحترم الوزير، أي وزير، لقدرته على إيذائك أو توفير منفعة لك, ترى ماذا بوسع وزير أن يفعل بك أو من أجلك وأنت تعمل في مصنع في كاليفورنيا أو مدرسا في بلد عربي؟

وعندما أقول إن الشعب المصري لن يفلس, فأنا أستند لهذه الحقيقة الواضحة أمامي؛ الفلوس التي تدور في شوارع مصر ومدنها وحواريها وقراها هي فلوس أرسلها مصريو الخارج إلى مصريي الداخل. الأثر الوحيد السيئ الناتج عن ذلك هو أن حكام هذه الأيام ستزداد عليهم أعباء المعيشة. هل عرفت الآن من المعرّض للإفلاس في مصر؟

ربما تُفاجأ بحجم التفاؤل في بقية مقالي, أريد أن أصارحك بأن التفاؤل ليس هو ما يحكم منهجي في التفكير, بل القناعة بالقليل وانعدام الرغبة في استهلاك أكثر مما أنا في حاجة إليه, أي أنني واحد ممن يصفهم المصريون بأنه «راضٍ بقليله»، وإذا كان أهل اليسار القديم يقولون إن زهرة واحدة لا تصنع ربيعا, فأنا أقول إن رؤية زهرة واحدة في حقل «السباخ» المصري هذه الأيام, تعطيني أملا في رؤية المزيد من الزهور. مؤسستان على الأقل في مصر الدولة بدأتا تعملان بقوة لافتة؛ المؤسسة العدلية ممثلة في القضاء، والمؤسسة الأمنية ممثلة في وزارة الداخلية.

حتى الآن يحتل القانون مكانا في مصر, والقضاء المصري، على الرغم من السوقية التي يتعامل بها معه بعض الغوغاء, ما زال قادرا على إصدار أحكام تخرس ألسنة هؤلاء الذين يعتدون على العقل والحقيقة. أما وزارة الداخلية فهي تعمل على مدار الساعة للقبض على الهاربين من السجون والمجرمين من قطاع الطرق, ولا تمر عدة أيام بغير أن نقرأ عن شرطي سقط على الأرض قتيلا وهو يؤدي واجبه. القضاة يعملون, رجال الأمن يعملون.. قل لي إن زهرتين لا تصنعان ربيعا, وأنا أرد عليك.. رحلة ألف ميل تبدأ بخطوة، ونحن قد قطعنا خطوتين في طريقنا الطويل.

أعترف أن عقلي يلجأ لكل الحيل التي عرفها البشر للإفلات من الأحزان حتى لا أقع في هوة اليأس فتكون نهايتي, ومع ذلك فأنا أعترف أن عقلي عاجز عن تجاوز حقيقة مخيفة، وهي غياب المؤسسة الإبداعية ولو في حدها الأدنى من المواصفات, هذه ثورة بغير حروف وبغير نوتة موسيقية, ليس لها عبد الله النديم وليس لها سيد درويش، والألحان التي أتجرعها الآن لا كلمة فيها تثير العقل ولا جملة لحنية تسكن القلب, وهو ما يذكرني بجملة سقراط «إن ظهور أساليب غريبة في الموسيقى تفسد الناس وتهدد بوصول السفلة إلى الحكم على المدى البعيد»، ربما تجد من الصعب عليك أن تصدق الاستنتاجات التي وصل إليها سقراط, لذلك سأذكر لك مقولة أفلاطون، وهي أكثر تحديدا وأقرب إلى علم الاجتماع.. «عندما تتغير القوانين الأساسية في الدولة, تتغير الأساليب الموسيقية» ترى.. ما هي بالتحديد القوانين الأساسية التي تغيرت في المجتمع المصري ونتج عنها ليس تغييرا في الأساليب الموسيقية, بل انعدام لها؟ هل هناك صلة بين العدل في مجتمع ما والموسيقى؟

الإجابة كما جاءت على لسان سقراط في الجمهورية لأفلاطون هي: نعم.. لا أعتقد بعد ذلك أنني في حاجة إلى القول إن غياب الموسيقى يعني غياب العدل, لسنا مهددين إذن بغياب الفلوس, بل بغياب العدل.

لم يحدث في طول التاريخ وعرضه وفي أي مكان على الأرض, أن اختطفت عصابة ملحنا وطلبت فدية من أسرته. لم يحدث أن مغنيا في أي زمان ومكان قرر أن يشكل عصابة تخطف ملحنا. ولكن ذلك حدث في مصر الآن.