القدس.. بين فتاوى المنع وضرورات البقاء!

TT

لا يمكن تصور إجماع فلسطيني أو إسلامي أو مسيحي، على اعتبار زيارة القدس، لأي سبب كان، عملا محرما أو محللا.. ففي مثل هذا الأمر يظل التباين والتناقض هو العنوان الأوضح للمسألة.

الذين يفتون بالمنع أو التحريم، يتمترسون وراء فكرة التطبيع المحرمة كليا.. ويسوقون لموقفهم القطعي هذا، ما يحتاجه من حجج دينية وسياسية، وبالتأكيد فإنهم لا يعدمون جمهورا مؤيدا أو متعاطفا، خصوصا حين يصورون الحضور إلى القدس على أنه تكريس للسيطرة الإسرائيلية عليها، حيث لا يستطيع زائر من أي جنسية أو دين دخول المدينة، إلا من خلال تأشيرة إسرائيلية.

ومنطق «المحرمين» بدأ زمنيا منذ الأيام الأولى لاحتلال المدينة المقدسة في يونيو (حزيران) 1967، أي في الوقت الذي كانت فيه فكرة تحرير القدس وفق مبدأ «ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة» في أوج سطوتها النفسية والتعبوية. في ذلك الوقت، كانت احتمالات تحرير المدينة في سياق إزالة آثار العدوان هي الأقرب، سواء تم ذلك من خلال الاستعدادات العسكرية على الجهات الرئيسية، أو أنشطة الثورة الفلسطينية واتخاذها الطابع الشعبي الشامل، أو من خلال العمل الدبلوماسي بما في ذلك التفسيرات المتفائلة للقرار الدولي الإشكالي «242» ثم «338» في ما بعد.

ومنذ يونيو 1967 حدث كل شيء إلا الاقتراب الفعلي من تحرير القدس، فقد استعادت مصر سيناء بكاملها، واستعادت سوريا مدينة القنيطرة، واستعاد الأردن ما له عبر اتفاق وادي عربة، وتجاوزا ومن دون الكثير من التدقيق، استعاد الفلسطينيون أصحاب القدس، البعض اليسير من حقوقهم عبر اتفاقات وتفاهمات أوسلو التي وضعت المدينة المقدسة على أجندة المحادثات في ما سمي ولا يزال يسمى حتى الآن بقضايا الوضع الدائم.

في زمن أوسلو.. الذي ما زلنا فيه، رغم التعثرات المتواترة لحلم السلام حتى أضحى قريبا إلى الوهم، تغيرت الأمور كثيرا وظهر إلى حيز الوجود مصطلح الحفاظ على عروبة وفلسطينية وإسلامية ومسيحية المدينة المقدسة، عبر وسائل عملية فعالة من نوع الحفاظ على الكثافة السكانية الفلسطينية في المدينة، وتطويرها بشتى الوسائل، والحفاظ كذلك على المعالم التي تجسد الهوية الدينية والسياسية والثقافية للمدينة، وأهمها المقدسات الأساسية للمسلمين والمسيحيين، إضافة إلى المؤسسات من كل الأنواع، التي تؤطر للصمود الشعبي وتضمن له مرتكزات بقاء وتطور وتعبير، تلك المؤسسات التي تبدأ من الجمعيات الصغيرة حتى بيت الشرق والكشافة والمسرح والرياضة والدواوين العائلية والمطاعم والفنادق وغيرها الكثير والكثير، من الشواهد التي تقول إن روح القدس باقية بقاء سكانها ولا أمل بغير ذلك للحفاظ على حقوقنا في المدينة.. والجميع يعلم كم من المليارات اليهودية رصدت لتصفية هذه الحقوق، وكم من القوانين والقرارات الاحتلالية وضعت ونفذت لجعل الفلسطينيين في القدس أقلية تضطر كي تعيش إلى أن تقبل واقع التبعية المطلقة لإسرائيل كي تنسى مع الزمن كل الروابط الجذرية بالمدينة وتاريخها وهويتها المميزة.

لقد تغلبت فكرة الحفاظ على القدس من داخلها، على فكرة انتظار المحررين القادمين من أي مكان، وهذا يعني أن الصراع على المدينة أضحى أشد قوة والتحاما من كل أحقاب الصراع الماضية بأشكالها العسكرية، أي أن السلاح الفلسطيني الأمضى والأكثر تأثيرا هو اللحم الحي، الذي لا تنفع معه الدبابات والصواريخ والطائرات التي يتملكها الخصم ولا أمل له بحسم الأمور من خلالها، ما دام الوعي الجمعي الفلسطيني يدرك أهمية البقاء في المدينة وأهمية تطوير هذا البقاء عدديا ونوعيا على نحو لا يؤدي - عمليا - إلى تثبيت واقع جزيرة الأقلية المحاصرة كما يسعى الإسرائيليون، وإنما يؤدي فعلا إلى وجود قوة بشرية نشطة وفعالة تكون الأساس المادي والمعنوي للقدس عاصمة فلسطين.

عندما يتحول الصراع إلى هذا الاتجاه، فإن القدس بحاجة إلى كل وسيلة تؤدي إلى كسر الحصار الإسرائيلي المحكم عليها من حولها ومن داخلها، إنها بحاجة إلى رؤية آلاف الأشقاء العرب والمسلمين والمسيحيين والمتعاطفين معها من جميع الملل والأجناس.

إن رؤية الدشداشة الخليجية والشماغ الأردني وسمرة البشرة القبطية في شوارعها ومساجدها وكنائسها ومطاعمها وفنادقها، أمر سيقوي روح الفلسطيني الصامد على أرضها والمتشبث بكل بلاطة من شوارعها وأرصفتها.

إن الختم الإسرائيلي على جواز السفر، وإن كنا نسعى لأن يستبدل به ختم فلسطيني، لم ولن يحدد مصير القدس، ولن ينزع عنها هويتها الأصلية كمدينة فلسطينية عربية إسلامية مسيحية نريدها سياسيا عاصمة لفلسطين، وحضاريا وإنسانيا متمما دينيا وتراثيا لكل المؤمنين على وجه الأرض.

لهذا حين نتحدث عن القدس وفي الدول العربية أكثر من سفارة لإسرائيل، وفي فلسطين ذاتها حوار على مختلف المستويات مع الإسرائيليين.. حين نتحدث عن القدس وهذا هو واقع الحال، يصبح تحريم زيارة المدينة، أمرا بحاجة إلى إعادة نظر، ذلك أن الأمر هنا صار متعلقا بالوسيلة وليس الهدف، وهدفنا أن تظل القدس رغم الاحتلال نابضة بقلبها العربي والنبض يصنعه البشر.

أخيرا لا بد من القول إن القدس هي الناس وليست ذلك الحبر الذي يغمس فيه ختم الدخول والخروج. ولولا الناس لما كان لنا قدرة على الحديث عن القدس، بعد كل هذا الصراع المرير والطويل والمكلف.