أزمة سوريا عند واشنطن.. قبل أي جهة أخرى

TT

«زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا.. أبشر بطول سلامة يا مربع»

(جرير)

عندما وصفت قبل أسابيع قليلة مهمة كوفي أنان لتسوية الأزمة السورية بأنها «مهمة الدابي 2»، كنت أحاول أن أكون واقعيا في تخميني من دون استخفاف.. أو سوء ظن يرد في غير محله.

فأنا من المؤمنين بأن «الطبع يغلب التطبع». وبما يخص نظاما عايشته - عن قرب ومن بعد - لأكثر من 40 سنة، تيقنت أن «قول الشيء وفعل نقيضه» عادة ترسخت في طبيعته، بل هي جزء لا يتجزأ من كيميائه الحيوية. وبناء عليه يغدو ضربا من الغباء أن يتوقع منه الراصد أي شكل من أشكال الالتزام، فما بالك إذا بني الالتزام المزعوم على إنكار الحقائق؟!

منذ 13 شهرا يركز الإعلام السوري الرسمي، وشبه الرسمي، على شهداء القوات الأمنية والجيش - رحمهم الله جميعا - من دون أن يشير، ولو من قبيل «رفع العتب»، إلى وجود ضحايا مدنيين.. تجاوز عددهم «الرسمي» عشرة الآلاف قتيل.

سمعنا عن «مندسين» و«إرهابيين» و«مؤامرة إسلاميين أصوليين» وتسلل «متسللين» من لبنان أولا، ثم من تركيا. ولكن لم تكن هناك إجابات شافية عن سبب لـ«اندساس» الأطفال إلى درجة تبرر خطفهم ثم قتلهم.

لم تكن هناك توضيحات مقنعة عن سبب إصرار «المندسين» البالغين على مهاجمة مظاهرات معارضي النظام.. بينما يتركون «عراضات» التأييد له تمر بسلام.

لم يكلف النظام نفسه عناء تفسير كيفية تمدد «مؤامرة» بهذه الخطورة في دولة يديرها عدد محترم جدا من أجهزة الاستخبارات.. من القامشلي في أقصى الشمال الشرقي إلى اللاذقية في أقصى الغرب، ومن اللاذقية إلى درعا في أقصى الجنوب، مرورا بإدلب وحماه وحمص وريف دمشق.. و.. و.. إلخ.

لم نسمع كيف يمكن لأشخاص مثل جورج صبرا أو فارس الحلو أو ريما فليحان أو فدوى سليمان أن يكونوا «أصوليين» أو «سلفيين».. أو كيف امتدت «الأصولية» إلى سلمية، قاعدة الإسماعيليين في سوريا، حتى بات ضروريا قصفها بالدبابات.

وتكرارا، سمعنا خلال الأشهر الماضية من الإعلام الرسمي وشبه الرسمي السوري، أن المظاهرات التي سيرت تأييدا للرئيس بشار الأسد إنما حشدت وسيرت دعما لـ«خطط الإصلاح» (!).. الإصلاح؟!

إصلاح ماذا؟! هل كانت هناك عيوب ما تحتاج إلى إصلاح؟!.. وإذا كان هو الحال، أليس غريبا أنه قبل «الربيع العربي» - الذي فقد اليوم الكثير من براعمه وشذاه - كانت سياسات الرئيس «كاملة الأوصاف» تستحق المبايعة بلا نقاش، مشفوعة بأكثر من 90 في المائة من أصوات الاستفتاءات المعلبة؟!

إصلاح ماذا.. طالما أن «الخطوة الإصلاحية» الأولى تمثلت بإعادة تشكيل حكومة من «المدرسة» نفسها، برئاسة وزير «حزبي» في الحكومة السابقة، و«وزراء سيادة» كلهم من «الطاقم القديم».. الذي يفترض أن الإصلاح مطلوب من أجل التخلص منه؟!

ما علينا. هذا كله صار من الماضي.

نحن الآن أمام وضع جديد، مع إقرار خطة نشر المراقبين الدوليين «وفق شروط احترام السيادة السورية»، كما طمأننا مشكورا السيد بشار الجعفري، والحمد لله.

ماذا ينتظر السوريون من «الفصل الأول» من «خطة كوفي أنان»؟ وهل هو الشيء نفسه الذي ينتظره منها المجتمع الدولي؟

بداية، الشعب السوري، الذي عجم عود «الحكم الأسدي» منذ خريف 1970 وأدرك أن لا «أنصاف حلول» ترتجى منه، أراد من انتفاضته احترام حقه في حياة حرة كريمة داخل بلده. وعلى رأس قائمة أولويات الحياة الحرة الكريمة.. المحافظة على سلامته وكرامته، ومن ثم إتاحة المجال له للتعبير عن رأيه وخياراته. وهذا الشعب يفهم أيضا أن خطة أنان «خطة واحدة متكاملة» لا مجال لتجزئتها والانتقاء منها استنسابيا، والتعامل معها على مراحل.

ولكن منذ إعلان النظام «موافقته» الاضطرارية «المشروطة» على الخطة، واصل التصدي للمتظاهرين السلميين، واستمر قصف المدن. كذلك ظلت «الآلة العسكرية» القمعية بقضها وقضيضها من مدفعية ودبابات وطيران عمودي و«شبيحة» داخل المدن والقرى وما حولها. وهذا يعني أن الالتزام الكلامي لا يتوازى مع الواقع على الأرض، حتى بالنسبة لأولئك الذين يريدون رؤية الكأس نصف ملأى لا نصف فارغة.

وهنا يأتي دور المراقبين الدوليين، الذين يؤمل أن يكونوا أكثر من مجرد «شاهد ما شافش حاجة»، كحال بعض أفراد بعثة الدابي الذين حالت حفاوة النظام المفرطة بهم، وحرصه على تكريمهم، دون مشاهدتهم صورة ما يحدث كاملة.

أمور كثيرة يمكن أن تقلق الراصد المتابع بشأن عمل المراقبين، ابتداء من شكل التفويض المعطى لهم، واستتباعا عددهم وحرية حركتهم - في ظل «احترام السيادة» طبعا - وجنسياتهم ومدى استقلاليتهم عن القرارات التي التزمت بها حكومات دولهم، مع النظام أو ضده، ثم قدرتهم على التمييز بين «المندس» (؟) و«الشبيح» من المسلحين بثياب مدنية. كيف سيتيسر للمراقب ذلك طالما أن أحدا من الجانبين لا يحمل «بطاقة هوية» أو «أمر مهمة» يحددان واقعه.. اللهم إلا إذا أتيحت لهم مشاهدة نقلهم بحافلات تتحرك بحماية الدبابات والمدرعات، أو تواكبها، أو تتبعها؟! بل كيف يمكن التأكد من أن «مدنيا» يرتكب هذه الجريمة أو تلك وليس عسكريا أو رجل أمن بزي مدني؟!

أصلا لا وجود لاتفاق رسمي لوقف إطلاق النار، إذا كان لنا الكلام عن «طرفين» متساويين متواجهين.. كما تود موسكو وبكين إقناعنا. وانطلاقا من انعدام الثقة عند المعارضة بنيات النظام، وإنكار النظام وجود معارضة حقيقية، ناهيك عن انشقاق عسكريين لرفضهم مهاجمة أهلهم، تبدو احتمالات مثل هذا الاتفاق بعيدة.

ثم نأتي إلى مسألة تجزئة «خطة أنان». وهنا نحن أمام محيط متلاطم من فرص المناورة المتاحة للنظام في ظل التراخي الأميركي المكشوف والمشبوه إزاء المشاغبتين الروسية والصينية. وهذا بجانب مقاربة أنان نفسه، وهي مقاربة رخوة باهتة تتعمد تجنب الحسم والقطع، وتبدو وكأنها تتوسل التعاون توسلا، كي لا نقول تتسوله تسولا.

عمليا كوفي أنان يملأ فراغا.. لا أكثر ولا أقل.

إنه يملأ فراغ الانكفاء التواطئي الأميركي، بناء على رغبات إسرائيلية بإبقاء الوضع الإقليمي على حاله، ومن ثم استثمار الاستقطاب الطائفي الحاد بين تشدد شيعي وتشدد سني يتقوى كل منهما بالآخر. ثم ترحيل فرصة أي صدام - مستبعد أصلا - مع إيران، واستغلال واشنطن تحمس موسكو وبكين للعب دور «القوى الكبرى» للاختباء خلفهما.. وتحميلهما تبعات تنامي الكراهية في العالم الإسلامي.

هذا الموقف الأميركي، ما لم يطرأ أي تعديل جذري عليه خلال الأيام والأسابيع القليلة المقبلة، سيواصل تكبيل تركيا، وسيزيد من مضي دمشق قدما في طريق النحر والانتحار.