التطلع إلى فرنسا ما بعد الثورة سعيا لإرساء نظام جديد في إيران

TT

لا يمكن لأحد أن يتنبأ بالاتجاه الذي ستسير فيه عملية التفاوض مع إيران، ولكني سأعرض لما أتمنى أن أراه: حوار موسع يحول قوة إيران الصاعدة إلى نظام أمني جديد في الشرق الأوسط في مقابل التزام إيران بعدم تصنيع أسلحة نووية.

إذا كنت تبحث عن تفسير واضح حول كيف يمكن إرساء مثل هذا الإطار، دعني أرشح لك مصدرا غير متوقع: وهو أطروحة رسالة الدكتوراه لهنري كيسنجر التي حملت عنوان «عالم مستعاد» والتي نشرت عام 1957. في هذا الكتاب، حلل كيسنجر كيف أنشأ رجال الدولة في أوروبا في القرن التاسع عشر هيكلا أمنيا جديدا أجبر فرنسا في عهد ما بعد الثورة - القوة الناشئة المزعزعة في تلك الفترة - على التكيف مع بريطانيا والقوى الأخرى القائمة من خلال مؤتمر فيينا الذي انعقد عام 1815.

سمعت كيسنجر يناقش تلك القضايا مؤخرا حينما زار هارفارد لإجراء مقابلة، امتلأت معها أكبر قاعات الجامعة عن آخرها. سألت طالبة دراسات عليا، تدعى جيسيكا بلانكشتاين، وزير الخارجية السابق عن أطروحته، التي كتبها قبل 55 عاما، واستشهدت بتوصيته التي أشار فيها إلى أن مهمة رجل الدولة يجب أن تتمثل في تحقيق التوافق بين العادل والممكن. ولاحقا، في مأدبة عشاء أقامتها رئيسة جامعة هارفارد، درو فاوست، على شرفه، تحدث كيسنجر حول كيف يمكن أن تمثل إعادة إعمار أوروبا في عام 1815 نموذجا لإشراك إيران في شرق أوسط جديد وأكثر استقرارا.

سأشرح المزيد عن المكافئ الأوروبي لدبلوماسية اليوم، لكن لنقدم أولا وصفا للحدث الذي أقيم بجامعة هارفارد: كان نوعا من لم الشمل الذي طال انتظاره بين كيسنجر والجامعة، التي حصل منها على شهادة التخرج ودرجة الدكتوراه، ثم قام بالتدريس فيها كأستاذ، إلى أن انضم لإدارة الرئيس نيكسون في عام 1969 كمستشار للأمن القومي. كانت تلك هي حقبة فيتنام، وكانت جامعة هارفارد بمثابة مركز للاحتجاجات الحماسية.

حينما ترك كيسنجر الحكومة عام 1977، كان مجتمع جامعة هارفارد لا يزال غاضبا وقدم فقط عرضا اضطراريا لإعادته مجددا، وهو العرض الذي رفضه كيسنجر. أحدث هذا صدعا تم رأبه في النهاية من خلال دعوته إلى اجتماع في مسرح ساندرز، فضلا عن مأدبة العشاء التي أقامتها فاوست. وقد تلقيت دعوة نظرا لأنني كنت أقوم بتدريس أحد مقررات هذا الفصل الدراسي بكلية كنيدي التابعة لجامعة هارفارد.

كان الحدث مثيرا للمشاعر، حيث أعطيت لكسينجر، في سن الثامنة والثمانين، مساحة للحديث عن تكاليف الحرب والتحديات التي تواجه الأساليب الدبلوماسية؛ «لو كان رجال الدولة عام 1914 قد أدركوا الصورة التي سيبدو عليها العالم عام 1919، هل كانوا سيخوضون غمار القتال؟»، هكذا طرح سؤاله على الطلاب. بالطبع لا، لكن مثلما أشار كيسنجر بعد بضع دقائق: «في العمل، عليك أن تتصرف كما لو كنت واثقا مما تقوم به. إنك لا تكافأ على شكوكك».

دعونا نعود الآن إلى عملية التسوية بين الدول التي اندلعت فيها ثورات في العصر الحديث والقوى القائمة في الوقت الراهن. ما تناوله كيسنجر في أطروحته هو تطبيق سياسة «الوفاق الأوروبي» التي وضعت عام 1815 بشكل جديد، في أعقاب حروب نابليون بونابرت، من خلال السبل الدبلوماسية التي انتهجها كل من الكونت مترنيخ النمساوي واللورد كاسلريغ البريطاني: كانا «رجلي الدولة المؤيدين للتوازن، في سعيهما لاستتباب الأمن عن طريق توازن القوى. كان هدفهما هو الاستقرار، وليس الكمال».

إن حالة الاضطراب التي تجتاح الشرق الأوسط في وقتنا الحاضر تشبه حالة الفوضى التي سادت أوروبا في أعقاب الثورة الفرنسية، وتحت شعار نابليون، تم إحداث حالة من الاضطراب العسكري عبر أرجاء القارة. غير أن الشرق الأوسط لم يستوعب بعد الثورة الإيرانية التي وقعت عام 1979، فما بالكم بالربيع العربي الذي يهز أرجاء العالم السني. إنها منطقة تلتمس توافقا جديدا بين الدول يحقق المواءمة بين الأنظمة الملكية المحافظة والأنظمة الجمهورية الجديدة.

ربما يكون وصف كيسنجر لأوروبا في عهد الثورة منطبقا على إيران تحت حكم آيات الله: «جوهر أية قوة ثورية أن تمتلك شجاعة الدفاع عن معتقداتها، وأن تكون مستعدة، بل وتواقة، للترويج لمبادئها في سبيل تحقيق مقصدها النهائي». ولا يمكن كبح جماح تلك القوى الناشئة إلا بواسطة نظام جديد يقبل صعودها ويحد من التبعات الوخيمة له.

إن استعادة النظام القديم المعمول به في عام 1815 أمر مستحيل. لكن بإمكاننا أن نتخيل نظاما مختلفا يرسي أسسا جديدة للشرعية والتعاون. ويتمثل النهج الدبلوماسي الذي يكفل مثل هذه التحولات في «فن كبح جماح ممارسة السلطة»، مثلما كتب كيسنجر عن الشخصيتين الرئيسيتين في أطروحته، مترنيخ وكاسلريغ. وعن إيران الحديثة، أشار كيسنجر إلى أن المطلب الأساسي يتمثل في أن تتصرف كدولة لا كقضية، من خلال العمل في إطار نظام دول يرتكز على قواعد. وعند حدوث ذلك، يمكن أن تصبح إيران قوة للاستقرار الإقليمي، لا للاضطراب.

يعتبر الحوار مع إيران في إسطنبول بداية هشة. لكن علينا أن نوسع مداركنا، استنادا على ما قاله كيسنجر، كي نتخيل ما يمكن أن يحققه التوظيف الجاد للنهج الدبلوماسي.

* خدمة «واشنطن بوست»