لماذا غانتر غراس شخصية غير مرغوبة في إسرائيل؟

TT

غانتر غراس، المولود عام 1927، روائي وشاعر وكاتب مسرحي ورسام وفنان غرافيك ونحات ألماني عظيم، فاز بجائزة نوبل للآداب عام 1999. ويشار إليه باعتباره أشهر كاتب ألماني ما زال على قيد الحياة. وذهب بعض المحللين الألمان إلى حد منحه لقب روح الشعب الألماني. لقد تعرفت عليه من خلال قراءة أول رواية له وربما أشهرها وهي «الطبلة القصدير»، (tin drum) وآخر كتبه «peeling the onion»، (تقشير البصل). يبدو لي بنشر قصيدته أننا نستمع إلى صوت طبلته القصدير ونراه يقشر «بصلا جديدا»، حيث قال إنه منع في الماضي من دخول ألمانيا الشرقية خلال فترة حكم الحزب الشيوعي وميانمار التي تخضع لحكم العسكر. لقد أوجد غانتر مناخا جديدا في العالم من خلال نشره لقصيدته الجديدة. وقيل إن غانتر غراس هو صوت اليقظة في ألمانيا. تبين أن قوة الأفكار في الحرب النفسية والدعائية أكثر حسما وتأثيرا من قوة السلاح. ويمكن التعبير عن ذلك بأسلوب أكاديمي من خلال القول: «من ينجح في الهيمنة ثقافيا ينجح في الهيمنة سياسيا في النهاية». ويعد هذا واحدا من أعظم دروس التاريخ، فالمفكرون والروائيون والشعراء والفنانون هم أهل البلد الحقيقيون، بينما السياسيون مجرد ضيوف. نحن اليوم إزاء نموذج لسيف الدولة الذي يعيش في كنف المتنبي، وبعد خمسين عاما من الآن لن يعرف أحد وزير الداخلية الإسرائيلي ولا حتى رئيس الوزراء، لكن لن ينسى أحد غانتر غراس. وتعد قصيدة غانتر غراس دليلا واضحا على أن قوة الكلمة قد تفوق قوة السياسة. ويعد هذا هو الفارق التاريخي بين النفاق والحقيقة. وهناك مثال كلاسيكي خلال القرن العشرين على ذلك، وهو الفارق بين ستالين وبلغاكوف. لقد انتصر بلغاكوف من خلال «ماستر» و«مارغريتا»، بينما فشل ستالين ولم يعد له وجود. يبدو أننا إزاء تباين جديد بين السياسة والأدب، حيث هناك اختلاف في وجهات النظر حول قصيدة غانتر، ففي حين ينتقدها البعض، يثني عليها البعض الآخر. وانتقد الساسة الإسرائيليون غانتر غراس لأنه تطرق إلى أمر محرم، في حين دعمه ساسة إيرانيون لأنه انتقد إسرائيل. الأهم من ذلك هو أن الإيرانيين لم يقرأوا القصيدة كاملة. ويبدو لي أن الطرفين أخفقا في إدراك مغزى القصيدة، لذا كان حكمهم مبنيا على سوء فهم. ما هي تلك القصيدة المثيرة للجدل؟ إنها قصيدة بعنوان «ما يجب أن يقال»، (What must be said). ويتحدث غانتر في قصيدته عن إسرائيل وإيران ويركز على السلاح النووي الذي تمتلكه إسرائيل، وكذلك عن المنشآت النووية الإيرانية. إنه يعبر من خلال قصيدته عن قلقه على البشر ويؤكد على أهمية السلام، وهو ما دفعه إلى التخلي عن صمته، لذا قال:

«لماذا ظللت صامتا؟ صامتا لزمن طويل؟ لقد لعبها جنرالاتنا واثقين أن الغرب سيبقى. ولم نكن نحن الشعوب في الحسبان. ما الحق في شن (حرب وقائية؟) حرب يمكن أن تمحي الشعب الإيراني من الوجود. تخضع لهيمنة دولة الجوار ويملؤها بالغرور لأنها هي، لا إيران، من تمتلك القنبلة. لماذا تجنبت حتى هذه اللحظة الإشارة إلى إسرائيل باسمها؟ إسرائيل وترسانتها النووية المتنامية التي لا تواجه بأي لوم ولا تخضع لأي تفتيش. نعلم جميعا كل هذا، لكننا نبقي على صمتنا خوفا من وصمنا بمعاداة السامية. لماذا انتظرت طويلا لأقول هذا؟ وأكتب هذه الكلمات بآخر ما تبقى لي من حبر؟ هل هو التصريح بتهديد إسرائيل للسلام العالمي؟ هل لأنه صحيح ويجب أن يقال. غدا سيكون متأخرا جدا. ويجب أن أقول، لن أبقى صامتا. لقد سئمت من النفاق. اسكبوا معي الصمت رجاء، فالعواقب معروفة جدا. إنه وقت المطالبة بالحرية والسيطرة الدائمة على ترسانة إسرائيل النووية ومنشآت إيران النووية».

ليست هذه سوى بعض مقتطفات من القصيدة. وأود الآن أن أركز على كيفية تعاطي كل من إسرائيل وإيران مع هذا الأمر. غانتر غراس بالنسبة إلى إيران رمز كل ما هو جيد، بينما يمثل لإسرائيل الشر الجديد. كان رد إسرائيل قاسيا وسريعا، حيث صرح وزير الداخلية الإسرائيلي، يشاي، قائلا «تعد قصائد غانتر محاولة لإشعال جذوة الكراهية تجاه دولة إسرائيل وشعبها. إذا كان غانتر يريد الترويج لأعماله المشوهة الزائفة، اقترح أن يقوم بذلك في إيران، حيث ينتظره جمهور عريض يتوق إلى ذلك هناك». وأوضح أن غانتر شخص غير مرغوب فيه داخل إسرائيل وممنوع من دخول البلاد.

كذلك تطرق وزير الخارجية الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، إلى هذا الأمر، حيث أوضح لرئيس الوزراء الإيطالي خلال زيارته إلى إسرائيل أن كتابات غراس توضح كيفية استغلال المفكرين الغربيين لمعاداة السامية في تحقيق الشهرة وزيادة مبيعات كتبهم. وقال: «نتوقع من قادة الدول الأوروبية اتخاذ خطوات حاسمة ضد أقوال صناع الرأي المؤثرين وعدم السماح لهم بالاستمرار في التمتع باحترام الرأي العام». وأشار وزير الخارجية إلى خطر انتشار تعليق بسيط معاد للسامية وتحوله إلى ظاهرة. وصرح غراس لصحيفة «سودويتش زيتونغ» بأن نتنياهو «أكثر رجل سبب ضررا لإسرائيل». وأثارت قصيدة غراس زوبعة كبيرة بعد نشرها في صحيفة «سودويتش زيتونغ» الأربعاء الماضي. ويشير المؤلف فيها إلى سعي إسرائيل لتدمير إيران ويتساءل عن بيع ألمانيا لغواصة مجهزة لنقل رؤوس نووية إلى إسرائيل، التي يعتقد أنها الدولة الوحيدة التي تمتلك سلاحا نوويا في منطقة الشرق الأوسط. وتتبنى إسرائيل سياسة الغموض فيما يتعلق ببرنامجها النووي ولم توقع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. ونشرت صحيفة «بيلد» مقال يهاجم غانتر غراس في 12 أبريل (نيسان) 20112 وجاء فيه: «يحتفي الإيرانيون بالقصيدة المجنونة التي كتبها غانتر غراس. اللعنة على شعر غانتر غراس المهووس بإسرائيل». وأدى نشر شعر الأديب الحائز على جائزة نوبل في صحيفة «زيتونغ» إلى تلقي غراس الثناء والمديح في ألمانيا، وبعض النقد اللاذع من إسرائيل. ووصف إيفرايم زوروف، مدير مركز «سيمون فيزنتال» في القدس القصيدة بالـ«مقيتة». يبدو أن هذا مؤشر يدل على أن إسرائيل «ستكون الشخص الذي يتلقى العقاب من المحبطين الذين سئموا أحاديث المحرقة».

أما في إيران، فقد نشر شاعر مقرب من النظام ويمتدح كل ما يقوم به النظام، قصيدة مذهلة تدعم غانتر غراس، يقول فيها:

«آواه يا غانتر غراس، إن دم نولدكه يجري في عروقك»

ولا يوضح هذا الشعر أن شاعر الدولة لم يقرأ قصيدة غراس حتى النهاية وحسب، بل إنه فشل في معرفة ثيودور نولدكه، فكان كما يقول المثل العربي خلط الحابل بالنابل. أعتقد أن مكانة غانتر غراس تتجاوز السياسة، لذا فهو أكثر رفعة وأعلى شأنا من السياسيين الذين لا يتكلمون إلا بلسان من خشب ولا ينطقون إلا بكلمات زائفة. تمثل قصيدة غانتر غراس السلام والتراحم، فهو يحب كل البشر، ويتناول في قصائده كل الأنماط البشرية. لقد ذاق مرارة الحرب في حياته. لماذا يريد السياسيون أن يكون غراس مثلهم؟ أعتقد أن السياسيين لم يقرأوا قصيدته جيدا، وبالتالي لم يدركوا الرسالة الحقيقية التي تحملها.