الولايات المتحدة.. نظامان اقتصاديان وليس نظاما واحدا

TT

يتمتع عالم التجارة والأعمال الأميركي حاليا بديناميكية خلاقة تثير الدهشة، لكنها في الوقت ذاته تثير الخوف إلى حد ما؛ ففي ظل الاضطراب وغياب الثقة اللذين سادا طيلة السنوات الخمس الماضية، عمدت الشركات الأميركية إلى التخلص من الموظفين والعمل على زيادة الكفاءة والإنتاجية. وطبقا لما ذكرته صحيفة «وول ستريت جورنال» الاثنين الماضي، فقد ارتفع «العائد لكل موظف» بالشركات المدرجة في مؤشر «ستاندرد أند بورز 500» من 378 ألف دولار عام 2007 إلى 420 ألف دولار عام 2011.

وهذه الزيادات في الكفاءة تعزز الاقتصاد الأميركي ككل، والصادرات الأميركية على وجه الخصوص. وقد تعهد الرئيس أوباما، منذ عامين، بمضاعفة الصادرات خلال السنوات الخمس المقبلة، وربما تنجح الولايات المتحدة حقا في تحقيق ذلك المستوى المستهدف؛ حيث تشهد الصادرات الأميركية حاليا طفرة هائلة، كما يقول تيلر كوين في مقالة رائعة نشرت في مجلة «أميركان إنترست» بعنوان «ما يعنيه توجه أميركا نحو التصدير».

ويرى كوين أن قوة أميركا التصديرية سوف تتجه إلى الارتفاع المؤكد خلال السنوات المقبلة، مشيرا إلى ثلاثة اتجاهات سوف تعزز من أداء الاقتصاد الوطني. أول هذه الاتجاهات هو الآلات الذكية؛ فالصين وغيرها من البلدان ذات الأجور المتدنية تمتلك ميزة هائلة تتمثل في كم العمال الذين يملأون مصانعها، لكننا نشهد حاليا التحول إلى عصر المصانع الهادئة؛ حيث الاعتماد أكثر على الروبوتات والبرمجيات الأكثر تقدما، مما سيقلل من أهمية مستويات الأجور ويقوي موقف الشركات الأميركية التي تصنع تلك البرمجيات والآلات الذكية.

الاتجاه الثاني هو الثورة التي يشهدها مجال التنقيب عن الغاز والزيت الحجري؛ ففي العام الماضي، وفرت لنا تقنية التكسير الهيدروليكي (Fracking)، التي تتمتع فيها الولايات المتحدة بمركز الريادة، إمكانية الوصول إلى كميات ضخمة من الطاقة الأميركية التي يمكن بيعها بالخارج؛ حيث تمتلك بلدان أوروبا وآسيا كميات أقل بكثير. وطالما أمكن تطبيق تقنية التكسير الهيدروليكي بشكل مسؤول، فحتما ستشهد الصادرات الأميركية طفرة هائلة.

أما الاتجاه الأخير فهو نمو الطبقة الوسطى على مستوى العالم؛ فحينما كانت الصين والهند ومثل هذه المناطق في بداية صعود سلم الدخل، كانت تستورد الكثير من المواد الخام من مناطق مثل كندا وأستراليا وتشيلي لتغذية المراحل الأولى من نموها الاقتصادي، لكن في العقود المقبلة، مع زيادة ثراء المستهلكين في تلك البلدان، فسوف تبدأ في استيراد المزيد من منتجات الأدوية وأشباه الموصلات والطائرات ووسائل الترفيه، التي تعتبر من أهم المنتجات الأميركية.

وإذا كان كلام كوين هذا صحيحا، فإن الولايات المتحدة لا تكون بلدا في طريقه إلى الانهيار، بل ربما نشهد الآن الأيام الأولى لطفرة في الصادرات سوف تسهم في النهاية في حدوث انتعاش اقتصادي، بما في ذلك الانتعاش في قطاع الصناعة، وإن كان هذا، كما يؤكد كوين، لا يعني أن الجنة الاقتصادية أصبحت في المتناول.

وتترك المقالة التي أشرنا إليها الانطباع بأنه يوجد اقتصادان أميركيان مترابطان؛ فمن ناحية، هناك القطاع «المعولم» القابل للتجارة، أي الشركات التي يتعين عليها أن تتنافس مع كل أحد في كل مكان، وفي ظل تسلط سيف المنافسة الخارجية عليها، أصبحت هذه الشركات تحرص على بلوغ أقصى درجات الديناميكية والكفاءة (التي تصل أحيانا إلى حد القسوة).

من ناحية أخرى، هناك قطاع ضخم من الاقتصاد لا يواجه هذه المنافسة العالمية، وهي قطاعات الرعاية الصحية والتعليم والعمل الحكومي. ويحاول القادة في هذا الاقتصاد تحسين الإنتاجية والاستعانة بالتقنيات الجديدة، لكنهم غير معرضين لضغوط الاضطرار إلى بذل أقصى الجهد، وتتسم وتيرة التغيير لديهم بالبطء.

وهناك فجوة آخذة في الاتساع؛ حيث إن القطاع الأول (المعولم) يحقق زيادات كبيرة في الإنتاجية، لكنه لا يوفر فرص عمل كثيرة، في حين أن القطاع الثاني (الأكثر حماية) يخلق فرص عمل أكثر، لكنه لا يحقق النجاح نفسه في زيادة الإنتاجية. ويولد الاقتصاد المعولم، بما يتسم به من المنافسة الحادة، فوائد كثيرة، بينما يعتبر الاقتصاد الثاني الأقل قابلية للتجارة هو الذي يضم في الواقع معظم الأميركيين.

وقد بدأنا نشهد في عالم السياسة صراعات بين من يعيشون في الاقتصاد الأول ومن يعيشون في الاقتصاد الثاني؛ فالجمهوريون في الأغلب يعيشون في القطاع المعولم الذي يتسم بالكفاءة، كما يحبونه ويؤمنون بأنه يجب أن يكون نموذجا للمجتمع بأكمله. وهم يريدون استغلال أسواق الرعاية الصحية الخاصة والإصلاحات التعليمية القائمة على الاختيار في جعل المجتمع بالقدر نفسه من الديناميكية والابتكار والكفاءة التي يتسم بها الاقتصاد الأول. أما الديمقراطيون فهم ينتمون في الغالب إلى القطاع الثاني ويحترمون قيمه، ويشددون على الجانب الهدام في انتشار الاقتصاد الأول - الأرباح الضخمة في القمة والأجور الراكدة في المنتصف - وهم يريدون تحجيم بعض الانتشار الذي يشهده قطاع الاقتصاد العالمي، وحماية الرعاية الصحية والتعليم والحكومة من منطقه الذي لا يعرف الرحمة.

ويؤمن الجمهوريون بأن القطاع المعولم يسبق النظام الحكومي بمسافة كبيرة؛ حيث يستطيع التكيف بالطرق الحتمية والمناسبة، وإذا منح الاقتصاد الأول ما يكفي من الحرية، فإن رجال الأعمال الموجودين فيه سوف يخلقون فرص العمل التي نحتاج إليها مستقبلا، وعلى الحكومة أن تهيئ الناس للدخول في ذلك القطاع، لكن عليها أن تبتعد عن طريقه بقدر الإمكان. أما الديمقراطيون فهم أكثر تفاؤلا بقدرة الحكومة على تعزيز إنتاجية القطاعات العالمية من الاقتصاد مع إعادة توجيه مكاسبها، وهم يريدون استغلال الاقتصاد الأول في تقديم العون المالي إلى الاقتصاد الثاني.

ولست أدري أي التحالفين ستكون له الغلبة، لكنني أظن أن المناقشات الدائرة اليوم متأصلة في الفجوات الهيكلية المتنامية، وهناك حاجة ملحة إلى فهم التفاعل بين هذين القطاعين المختلفين. وأود أيضا أن أضيف أنه ليس من السهل دوما أن تكون في واحد من تلك الجيوب - مثل الإعلام والتعليم العالي - التي تحدث الانتقال الوعر من الاقتصاد الثاني إلى الاقتصاد الأول.

* خدمة «نيويورك تايمز