السلاطين الثلاثة والمعضلة السورية

TT

كثيرون من العرب عموما والسوريين تحديدا كانوا يتمنون اجتياح المدرعات التركية الحدود السورية لإقامة منطقة عازلة، لا تستخدم لإيواء اللاجئين فقط، بل لتأسيس قواعد آمنة للجنود المنشقين، لتنظيم الجيش الحر وتأهيله للقيام بعمليات قتالية واسعة، وتشجيع وحدات وأفراد من تشكيلات الجيش النظامي على التمرد ورفض تنفيذ الأوامر التي تصدر إليهم للتصدي لقوى المعارضة والمظاهرات الشعبية.

وعلى الرغم من أن التلويح التركي بهذا الاتجاه بقي هامشيا ورمزيا، بما في ذلك مفاتحة قيادة «الناتو» لحماية الحدود، بعد الهجمات التي تعرضت لها مخيمات اللاجئين السوريين داخل الأراضي التركية، فقد كان للأتراك دور في تأسيس الهياكل الأولى للجيش الحر، وليس خافيا أن قائد الجيش يتحدث من منطقة الحدود بين البلدين، وهذا لا يعارض وجوده مرة على هذا الطرف وأخرى على ذاك.

ومنذ بدء الأحداث والمظاهرات، وقبل تحولها إلى ثورة مسلحة واسعة، فإن السلاطين الأتراك الثلاثة (رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزير الخارجية) تولوا شخصيا متابعة الملف السوري ساعة بساعة، وهو ما تؤكده تصريحاتهم وزياراتهم، التي تثبت تلقيهم سيلا من تقارير استخباراتهم التي تعاظم دورها مع انتشار العمليات المسلحة والروابط الوثيقة بين القيادات التركية والمعارضين السوريين والجيش الحر، وهو وضع طبيعي في الحالات المماثلة كلها.

التصدي التركي للأزمة لم يكن مبنيا على مشكلة تدفق اللاجئين، فقد سبق أن تحملت تركيا عشرة أضعاف هذا العدد من أكراد العراق، ويتحمل الأردن حاليا أعباء أربعة أضعاف ما تتحمل تركيا من وجود اللاجئين على الرغم من محدودية الموارد وعدم تلقي مساعدات خارجية، بل بُني على تقدير موقف استراتيجي جرى التلاقي فيه مع دول خليجية تصدت للأزمة بطريقة لم يفُقها إلا موقفها في حرب الخليج الثانية. ولم يكن الموقف التركي انتقاما وثأرا للأذى الذي لحق بتركيا جرَّاء التبني السوري لحزب العمال الكردستاني، قبل أن تتم تسويته، قبل ثلاثة عشر عاما؛ حيث حصل تحسن كبير في العلاقة بين البدين.

والحقيقة أن بحث المعضلة، إضافة إلى جانب التعاطف مع الشعب السوري، ينطلق من قلق الدول العربية الفاعلة من مستوى التنسيق بين النظام في سوريا والنظام في إيران، ويبدو أن جميع الجهود فشلت في فصم العلاقة الإيرانية - السورية أو تقليصها إلى مستويات عادية بعيدا عن أشكال التحالف. ومع أن تركيا حرصت على تطوير علاقاتها مع إيران لأسباب محددة، فإن مصالحها تلاقت مع مصالح الخليج في اتخاذ موقف يتطابق في كثير من حلقاته، وطبقا لمطلع موثوق، فإن لقاء أردوغان مع المرشد الإيراني علي خامنئي خلال زيارته الأخيرة أثبت أن الجانبين على طرفي نقيض تام حيال الملف السوري، والتعويل على احتمال تخلي القيادة الإيرانية عن دعمها للقيادة السورية لا يتعدى السعي وراء سراب.

ويعتقد محللون أن تردد تركيا في اتخاذ قرارات حاسمة يعود إلى أنها تتجنب ردود فعل إيرانية غاضبة قد تصل إلى حد المجابهة العسكرية المباشرة، وهو تصور لا يستند إلى معطيات منطقية؛ فالإيرانيون ليسوا مستعدين لخوض حرب مع دولة كبيرة وقوية مثل تركيا، فضلا عن كونها عضوا في حلف الناتو ويمكن أن تحظى بدعم آخر كبير في جميع المجالات، بما في ذلك الدعم المالي. وعلى الأرجح، فإن الأتراك يسعون إلى تحقيق التغيير في سوريا بالطرق الجارية، والحالة الوحيدة التي تتدخل فيها تركيا عسكريا هي عندما تكون جزءا من مجموعة دولية كبيرة وقوية بقرار من مجلس الأمن أو من دونه.

المراحل التي مر بها الموقف التركي تدل على أن القيادة تتخذ خطواتها وفقا لسير الموقف وسيل المعلومات الاختصاصية التي تحصل عليها أجهزتها، وفي ضوء ذلك بنت استراتيجية التدخل خطوةً خطوة. ويبدو أنها مصممة على المضي في توجهاتها انطلاقا من قناعة في القدرة على التأثير، فضلا عن أنها تتوقع، وفقا لما يروي شخص مطلع على الوضع التركي، مواجهة تدخلات سورية - إيرانية غير اعتيادية، إذا أخطأت تقديراتها، إلى حد يعرض أمن مناطقها الجنوبية الشرقية لمخاطر جدية، وقد تكون مساعدة حزب العمال الكردستاني إحدى وسائل التدخل.

لقد ركبت تركيا الموجة وأسهمت في تعزيز اندفاعها بقوة، ومن المستبعد أن تتخلى عن المخطط الذي تسير عليه، وشغلت الموقع المصري الذي غيبته إرهاصات الداخل وقتيا على الساحتين الإقليمية والعربية.