طرقات على الباب الفارسي

TT

يبدو المشهد في سوريا الآن مشوشا وغامضا، هل انتهت مهمة أنان، المبعوث الدولي؟ وانتهت على ماذا؟ ما معنى إيفاد المراقبين الدوليين إلى سوريا؟ وبماذا يختلف أو سيختلف هذا الأمر عن بعثة الجنرال السوداني «الفضيحة» محمد الدابي؟

هل يعتبر هذا نصرا أو هزيمة للنظام، باعتبار أنه حتى روسيا تدعم مهمة أنان والمراقبين الدوليين، وتساوي، على الأقل ظاهريا، بين النظام والمعارضة؟ وهو أمر لا يسر النظام الذي دأب على تسمية مخالفيه بالعصابات.

ما دور تركيا؟ ودور إيران، وهل تغير الموقف الدولي أو سيتغير بعد تعثر مهمة المراقبين الدوليين؟ وما الذي يفعله العرب، خصوصا الخليجيين، غير التعاطف والدعاء في المساجد؟ هل هناك شيء تحت الأرض لا ندري عنه؟

ثم كيف نربط مؤتمر إسطنبول الأخير بين اللجنة السداسية الدولية مع إيران حول الطاقة النووية؟ وكيف نفهم بعض الإشادات الدولية بالمواقف «البناءة» لإيران في المفاوضات، واعتبار بعض الساسة والمثقفين في إيران أن مؤتمر إسطنبول يعتبر نصرا مؤزرا للسياسة الإيرانية، وفي نفس الوقت تقوم إيران باستفزاز دول الخليج، من خلال زيارة أحمدي نجاد الاستعراضية إلى الجزيرة الإماراتية المحتلة، الأمر الذي استدعى ردة فعل حادة من قبل المنظومة الخليجية. وعليه، يُعقد اليوم (الثلاثاء) اجتماع خليجي طارئ بطلب من الإمارات لمناقشة زيارة الرئيس الإيراني الأخيرة للجزيرة.

وفي سياق متصل، تقدمت الإمارات برسالة احتجاج إلى الأمم المتحدة تدين فيها زيارة نجاد لجزيرة أبو موسى، واستدعت يوم الخميس سفيرها في طهران للتشاور، وألغت مباراة ودية في كرة القدم مع إيران كان من المقرر أن تقام بالإمارات احتجاجا على الزيارة.

أريد القول: إن من أحسن المداخل لفهم طبيعة الأزمة السورية مراقبة التحركات الإيرانية وطبيعة الخطاب مع المجتمع الدولي والإقليم. إيران في حالة عرض للقوة في المنطقة، وهي تحاور المجتمع الدولي في إسطنبول، وتناكف دول الخليج في نفس الوقت، وتمد نظام الأسد بأسباب القوة.

إنها دولة تجيد لعبة البيضة والحجر، وترمي أوراقها (الحمراء منها والخضراء والصفراء) بحسب الحاجة.

إيران هي مدخل التوتر في المنطقة كلها، وما الأزمة السورية، والعراقية، إلا مظهر من مظاهر الداء الإيراني.

هل الغرب لا يدرك ذلك؟

أبدا، فإدارة أوباما نفسها تتعرض للنقد بسبب تراخيها في تقدير الخطر الإيراني، وتعليقا على مؤتمر إسطنبول الأخير، نفى الرئيس أوباما تقديم أي تنازل خلال المحادثات بشأن ملف إيران النووي في تركيا، وتوعد بمزيد من العقوبات في حالة عدم إحراز أي تقدم، بينما انتقدت إسرائيل نتائج اجتماعات إسطنبول بشأن الأزمة.

ماذا تريد إيران حتى تهدأ عن خلق المشكلات؟ وهل هي فقط ثورة طائفية راديكالية أم نعرة قومية فارسية، أم مجرد استغلال لتهشم الإقليم وضعف القوى المحيطة، بعد انكسار شوكة العرب عقب صدام حسين وقبله جمال عبد الناصر، وبعد حالة الحصار المعنوي التي عاشها السنّة في الإقليم جراء أحداث 11 سبتمبر (أيلول)؟

هل الغرب منزعج فعلا من إيران في العمق ويعاديها ولا يحب دورها في الإقليم؟ أم يريد دورها ولكن بشكل معين؟

أسئلة برسم البحث وليس برسم الإجابات الحاسمة، فالوضع معقد ومتداخل ما بين التاريخي والأسطوري، والقومي والأصولي، والنفط والعمائم. الغرب ليس صوتا واحدا، وهناك كثير من الأفكار المطروحة للتعامل مع مشكلات الشرق الأوسط.

أعرف هذا، ولكن يجب التنبه إلى أن ثمة في أميركا وأوروبا بل وروسيا، من يدعم فكرة تقوية الدور الإيراني والشيعي في المنطقة على حساب الدور العربي والسني بشكل عام، باعتبار أن إيران شيطان تعرفه، وهي خير من شيطان لا تعرفه، كما استعرض هذا التوجه في مراكز التفكير الأميركي، الكاتب السعودي عبد الملك بن أحمد آل الشيخ في مقاله الأخير بهذه الجريدة، وهو مقال تجدر مطالعته.

يتحدث الكاتب عن كتاب لمؤلف أميركي اسمه روبرت بير، بعنوان «الشيطان الذي نعرفه.. التعامل مع إيران كقوة عظمى».

والمؤلف محلل سابق في الاستخبارات الأميركية، وله عدة مؤلفات، وخلاصة رأيه أن إيران هي القوة التي يجب على أميركا التعامل معها في المنطقة، باعتبار إيران دولة عقلانية ذات حضارة إمبراطورية عريقة، والعرب قوما متخلفين، ثم إن الشيعة أكثر عقلانية من السنة، وأنه يجب أن لا تعول أميركا كثيرا على تصريحات قادة إيران العدوانية، المهم أفعالها على الأرض.

وهكذا يمضي المؤلف في تقديم الاقتراحات لكيفية استيعاب مخاوف إيران، وتطمينها، ومنحها دورا قياديا في المنطقة، وتحويلها إلى حليف بدلا من عدو!

كلام بير ليس جديدا في التفكير الأميركي، وهو طرح سبق أن تبناه بقوة كتاب وصناع أفكار، مثلما فعل الأميركي من أصل إيراني (ولي نصر) أستاذ دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا في الأكاديمية البحرية الأميركية، في كتابه المثير «صحوة الشيعة»، وخلاصة أطروحته الخطيرة؛ أن الإمكان الديمقراطي لدى الشيعة أعلى منه لدى السنة، وأن الأميركان دخلوا على المنطقة أثناء غزو العراق دخولا خاطئا، حيث لم يدركوا تماما جذور وآثار الصراع الطائفي الإسلامي، قديما وحديثا، وهو يعتقد أن الصراع السني الشيعي هو الذي رسم تاريخ منطقة الشرق الأوسط، وهو الذي يعيد رسمها الآن مجددا.

ولي نصر في كتابه الذي تلقفته النخبة الأميركية وقرظه بالمديح نقاد كبار في أميركا، يبدو متحمسا لأهمية الالتفات إلى أن هناك تاريخا جديدا قيد الكتابة في منطقة الشرق الأوسط، يتكشف برصد ملامح ومحطات الصراع بين «الصحوة الشيعية» ومقاومة السنّة لهذه الصحوة، وعلى الرغم من أنه يقدم نفسه ليبراليا مؤيدا للقيم الليبرالية ومتحمسا للمشروع الديمقراطي، فإنه يركز كثيرا على قاطرة هذه الصحوة المتمثلة بثورة ودولة «الولي الفقيه» في إيران، باعتبارها ركيزة هذه الصحوة وسندها.

وفي سياق استذكاري طويل، يعود بنا نصر إلى لحظات الصراع الأموي الهاشمي، ويمضي نصر طيلة صفحات الكتاب على هذه الوتيرة، مرورا بلحظات «البيات الشيعي» الطويل، بعد اكتساح السنة للمشهد، وصولا إلى الانبعاث الصفوي، والصراع العثماني معه.. وهكذا، حتى نصل إلى لحظة الخميني الفاصلة، وهي المحطة التي لاحظ نصر أن الخميني اعتبر نفسه بها المؤسس الحقيقي للتشيع الجديد، بروح ثورية غير انكفائية ولا انتظارية، على ما كان عليه علماء الحوزة.

من أهم ما قدمه ولي نصر في كتابه واصفا طبيعة «الصولة» الإيرانية المتعكزة على التشيع السياسي الثوري، حينما قال: «السنوات التي تلت عام 2001 مثلت، من عدة نواح، (اللحظة البروسية) بالنسبة لإيران، تلك التي يمكن مقارنتها بحقبة النفوذ المتعاظم لبرلين الذي عرف (بسمارك) كيف يهندسه على اتساع العالم الناطق بالألمانية في منتصف القرن التاسع عشر». ثم يضيف: «وفي رأيي أن الصحوة الشيعية ستعمل على توسيع نطاق النفوذ الإقليمي لإيران وتعزز مطالبتها بأن تعامل كقوة عظمى» (ص 220).

في العراق، رأينا تجسيدا لهذه الصحوة أو «الثورة» السياسية الشيعية، ونرى تصريحات واضحة تشعر بأهمية هذه اللحظة الفارقة في تاريخ الشيعة السياسي للدرجة التي عنون فيها المؤلف الفصل السابع من كتابه بـ«العراق: الدولة العربية الشيعية الأولى».

ونقل عن عادل عبد المهدي، أحد معتدلي مجلس الحكيم، قوله في عدد ديسمبر (كانون الأول) 2003 من مجلة «Smithsonian» الأميركية قوله: «بوسع الشيعة الآن أن يرفعوا رؤوسهم، لقد صار بإمكانهم أن يمثلوا العراق» (ص 197).

الكاتب الأميركي روبرت بير ذكر أنه حضر مقابلة في طهران مع هاشمي رفسنجاني قال فيها بالنص إن «الملالي في طهران يعرفون أن عليهم واجب إعادة المجد الفارسي التليد».

ما نريد قوله في نهاية الأمر هو التفكير في الارتقاء في مقاربة الأزمة السورية ومعها العراقية واللبنانية، بل وحتى اليمنية وجزر الإمارات والبحرين من منظور أشمل من حصرها بمجرد بيدق إيراني في دمشق اسمه بشار الأسد. على الأقل التفكير في هذه الخلفيات والظلال التاريخية بالإضافة للتفكير في المجريات اليومية. التفاصيل الصغيرة قد تضيع الصورة الكبيرة أحيانا.

[email protected]