الإمارات وإيران.. العدوقان أبدا

TT

قوبلت زيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلى الجزر المتنازع عليها بين الإمارات وإيران، بسيل من التنديد والاستهجان، من قبل دول الخليج وبعض الدول العربية الأخرى. حيث احتجت الإمارات رسمياً واستدعت سفيرها في طهران للتشاور، واجتمع وزراء الخارجية الخليجيون في الدوحة أمس، للتنديد بالاستفزازات الإيرانية. السؤال المطروح اليوم: هو لماذا أقدم الرئيس أحمدي نجاد على زيارة الجزر في هذه المرحلة بالتحديد؟ وهل قصدت إيران حقاً استفزاز الإمارات؟ أم أن هناك دوافع وأسبابا أخرى لما جرى؟ العلاقات الإيرانية ـ الإماراتية معقدة للغاية، فمن جهة يتجاوز التبادل التجاري بين البلدين قرابة 13مليار دولار، وتعتبر دبي إحدى أهم قنوات استيراد البضائع الإيرانية وتصديرها. وتضم الإمارات أكبر جالية إيرانية في الخليج تتنوع نشاطاتها في القطاع التجاري والمصرفي.

وعلى الرغم من ذلك كله، فإن إيران والإمارات هما طرفا خصومة في أهم قضية نزاع حدودي في مياه الخليج حول سيادة كل من جزر: طنب الكبرى، والصغرى، وأبو موسى. مما يجعل الطرفين «عدوقين» ـ (أصدقاء وأعداء) في الوقت ذاته - إذا ما استعرنا تشبيه الدكتور محمد الرميحي في كتاب صدر له منتصف التسعينات. الخلاف بين الطرفين يمتد لأكثر من مئتي عام على الأقل، وفي التاريخ المعاصر تحولت القضية إلى أزمة إقليمية مستدامة منذ أن استخدم شاه إيران القوة للاستيلاء على الجزر في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1971، بعد الانسحاب البريطاني من الخليج، وكانت تلك الحادثة أحد الأسباب الدافعة إلى التعجيل بالاتحاد الإماراتي نهاية ذلك العام.

لقد كتب الكثير حول تاريخ هذا النزاع وأسبابه، لعل من أبرزها كتاب: «ايران والسعودية والخليج: سياسة القوة في مرحلة انتقالية 1968 ـ 1971» للدكتور فيصل آل سعود (آي بي تورس 2003)، وكتاب: «جزر صغيرة وسياسات كبرى» تحرير هوشانج أمير أحمدي (بالجريف 1996). أهمية الجزر لا تمكن فقط في كونها مصدرا بتروليا كبئر المبارك، التي تحكمها اتفاقية موارد بين إمارة الشارقة وإيران، ولكن في موقعها الاستراتيجي حيث مسار دخول الناقلات البحرية وخروجها من وإلى الخليج. لأجل هذا السبب بالتحديد حرصت إيران على الاستحواذ عليها، وفرضت مسافة 12 ألف ميل حدودا بحرية لها، وفي 1996 أنشأت فيها مطارا، وزادت عديد قواتها المرابطة فيها مما عقّد العلاقات بين مجلس التعاون وإيران. لعل من المهم التنويه إلى أن أغلب الوكالات الإخبارية والصحف تحدثت عن زيارة نجاد بوصفها الأولى لرئيس إيراني للجزر المتنازع عليها، ولكن من الناحية التاريخية تعتبر هذه الزيارة الثانية، حيث سبق للرئيس هاشمي رفسنجاني زيارة الجزر في فبراير (شباط) 1992، وتلا ذلك تجدد الأزمة بين إيران ودول الخليج، بعد أن طردت السلطات الإيرانية العمال الأجانب من جزيرة أبوموسى، وفرضت على المواطنين الإماراتيين الحصول على تصريح للزيارة في أغسطس (آب) من ذلك العام.

الملاحظ أن هناك تشابها واختلافا بين أزمتي 1992 و2012، فمن جهة، جاءت زيارة رفسنجاني - كما هي زيارة نجاد - في وقت كان الاقتصاد الإيراني يعاني من تراجع كبير مع تهديدات بعقوبات اقتصادية إضافية، ولهذا كانت الزيارة دليلا على أن إيران تعيد تأكيد سيادتها على الجزر، بعد مخاوف من أن يتمكن الأميركيون من إقناع دول الجوار باستعادة الجزر. صحيح أن هذا السيناريو كان ضعيفاً، ولكن الساسة الإيرانيين لم يكونوا ليكتفوا بالتطمينات، خصوصاً وأن الجزر بموقعها الاستراتيجي تمكن إيران من تعطيل الملاحة، في حال حدثت أية تطورات عسكرية في الخليج على حساب طهران.

أما وجه الاختلاف فهو كون هذه الزيارة - التي تزامنت مع الذكرى العشرين لزيارة رفسنجاني - جاءت في وقت أكثر ما تكون فيه طهران بحاجة إلى استمالة الإمارات، لإيجاد حلول للعقوبات الاقتصادية التي طالت البنك المركزي الإيراني ومؤسسات اقتصادية أخرى مهمة لتجارتها الخارجية، مما فرض ضغوطاً على الإمارات لتقليص خدماتها البنكية مع طهران. يضاف إلى ذلك أن توقف واردات إيران من الاتحاد الأوروبي، يجعل من الإمارات الوسيط الوحيد القادر على تأمين مشتريات إيران الأوروبية، وحوالاتها من الإيرانيين المقيمين في الخارج، ولا سيما في الإمارات ذاتها، حيث تتجاوز تقديرات قيمة المنتجات التي تدخل إلى إيران عبر الإمارات، الـ20 مليار دولار سنويا، أي ثلث واردات إيران.

هناك تفسيران محتملان للأسباب التي دعت طهران للقيام بهذه الخطوة المستفزة: الأول يتعلق بالملف النووي، والثاني يتعلق بتراجع محتمل للنفوذ الإيراني في المنطقة كنتيجة للأزمة السورية. وفيما يتعلق بالملف النووي، فإن إيران كانت تقدمت لمجموعة 5+1 بطلب لاستئناف المفاوضات، وعلى ضوء ذلك يمكن القول إن إيران أرادت أن تعكس صورة قوتها وصمودها، في الوقت الذي ربما تستعد فيه لتقديم تنازلات محسوبة في الملف النووي، أي تخفيض التخصيب بدل إيقافه، والاكتفاء ببعثة دولية لمرة واحدة لزيارة منشآتها تضم على الأقل روسيا والصين.

وعليه، فإن زيارة نجاد هي رسالة لدول الخليج، بأن إيران ما زالت فاعلة وقوية، حتى وإن اضطرت للتنازل – مؤقتاً - في ملفها النووي. أما التفسير الآخر فيتعلق بتبعات الأزمة السورية، حيث تريد طهران أن تذكر دول الخليج بأنها قادرة على تهديد مصالحها - لا سيما الإمدادات النفطية - وأن بوسعها التهديد بوقف التعاملات التجارية مع هذه الدول لكي تربك الحسابات الاقتصادية في مرحلة تحتاج فيها مدن مثل دبي لإنعاش تجارتها بعد الأزمة الاقتصادية، وهي قد تستفيد بالضرورة - أي طهران - من الارتفاع في سعر النفط نتيجة لتلك المخاوف.

حالياً، هناك مؤشرات متناقضة، فمن جهة حاولت إيران فرض عقوبات على التجارة مع الإمارات في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ولكنها عادت لتطلب من الإماراتيين مساعدتها في تجاوز العقوبات، لا سيما بعد حظر خدمة الاتصالات السلكية واللاسلكية المالية العالمية بين البنوك - المعروفة باختصار «سوفت» - لأي تعاملات مع طهران مما دفع بالأخيرة إلى محاولة التغطية على صادراتها من البترول، حتى ان الشركة الوطنية الإيرانية للناقلات، طلبت من بواخرها تعطيل الصندوق الأسود، لكي لا تظهر مواقعها على أجهزة الرادار لتحديد المواقع الجغرافية لحركة الملاحة البحرية.

زيارة الشيخ عبد الله بن زايد ـ وزير الخارجية الإماراتي- المفاجئة إلى طهران في مارس (آذار) الماضي هي مثال بارز على تعقد العلاقات مع إيران، حيث لم تقدم طهران أية ردود إيجابية بحسب بعض المراقبين، حول ما قيل إنها مبادرة إماراتية لتخفيف التوتر بين إيران وجيرانها، في أعقاب الانتفاضات الشعبية التي عمت بعض الدول العربية العام الماضي.

لا شك أن تبعات الانتفاضات العربية قد بدأت تؤثر على صورة توازن القوى في الخليج، فإيران تسعى للتحرك إقليمياً لتعويض خسارة محتملة لحليفها السوري، وهناك أدلة تؤكد انخراط أطرف أخرى مثل حكومة نوري المالكي في العراق للعب دور الحليف مستقبلاً، على الرغم من وجود معارضة كردية وسنية لهذا التوجه عبرت عنه بشكل غير مباشر تصريحات مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان مؤخرا. يضاف إلى ذلك تحرك النظام الإيراني على مستوى تنشيط الخلايا المتطرفة بين الشيعة الخليجيين، وتكثيف العمليات التخريبية والاغتيالات في الخارج.

أغلب الظن أن النظام الإيراني يسابق الزمن لإنجاز سلاحه النووي كخيار استراتيجي للبقاء، بعد تراجع محور الممانعة والمقاومة الذي كان يقوده. التحول الذي ستشهده لعبة توازنات القوى قد يستمر لعقد من الزمان أو أكثر، قبل أن تتبين ملامحه، فأطراف الخليج كلها تناور وتتحرك لتأمين مصالحها الاستراتيجية. لقد سئل رئيس الوزراء الصيني زو إينلاي (1945 ـ 1976) مرة عن رأيه في الثورة الفرنسية بعد مرور قرنيين عليها، فأجاب: «إن القول في هذا سابق لأوانه».

لعل هذا ما ينطبق على التحول الجديد في موازين القوى بين إيران وجيرانها.