عملاء «فايبر»

TT

المتغيرات باتت أسرع من أن يلتقطها التفكير التقليدي البليد، فما بالك بأن يحللها. السرعة الفائقة التي نعيش في ظلها، وما تأتي به من تطورات غير منظورة، معضلة يعاني منها مديرو الشركات العملاقة، وأصحاب الاختراعات التكنولوجية، تماما مثل المواطن العادي أو الديكتاتوريات العربية البالية، التي ما عادت تعرف من أين تأتيها الضربات ولماذا، ووجدت الحل بأن تلقي اللوم على المؤامرات، وتختبئ خلف التخمينات.

الحرب الضروس بين شركتي «أبل» و«سامسونغ» على تطوير الهواتف الذكية ليست مزاحا، فالأمر يتعلق بملايين الدولارات وآلاف الموظفين، ومصالح عابرة للقارات. تطبيقات معينة على تليفون ذكي في يد مواطن في العالم العربي، غيرت سلوكه وطريقة تفكيره، وباتت أداة له لترتيب تحركات احتجاجية، وتنظيم مظاهرات، وتصوير أحداث وإرسالها للإعلام، أو توثيقها لتقديمها لهيئات ومحاكم دولية تودي بنظام عمّر عشرات السنين.

أكثر المواطنين حذرا وعداوة لإسرائيل ضربوا عرض الحائط بملكية «فايبر» لإسرائيليين حتى بعد أن أعلنت صحيفة «معاريف» أن «300 ألف لبناني باتوا في قبضتنا» من خلال اشتراكهم بخدماتها، ومثلهم مئات آلاف العرب الآخرين الذين لم يرف لهم جفن أن يكونوا مشتركين فاعلين في خدمة إسرائيلية، تتيح «لأعداء الأمة» التنصت عليهم، أو اعتراض رسائلهم البريدية والصوتية والمصورة، أو حتى تحديد أماكن وجودهم.

تنتقل في الشهر الواحد عبر خدمة «فايبر» عدا الاتصالات العادية، مليارا رسالة نصية وعشرون مليون رسالة مصورة، لناشطي الربيع العربي منها حصة الأسد.

معرفة الناشطين بجنسيات مالكي الشركة، لم ولن يغير من واقع الأمر شيئا بحسب أحد الخبراء. فكل ما يريده الإنسان اليوم هو الوصول إلى غاياته بالسعر الأفضل. من قال إن العرب لم يتغيروا عليه أن يفتح عينيه جيدا.

تستطيع الدولة اللبنانية أن تغلق مكتبا للاتصالات غير المرخصة، لكنها تعرف سلفا أنها لن تتمكن من اعتراض خدمات الاتصالات الإلكترونية من «سكيب» و«تانغو» وغيرها، حتى ولو كان القانون يمنعها. وهي تطبق قانون مقاطعة إسرائيل على الكتاب والدفتر وحبة الزيتون، لكنها لن تفكر في منع خدمة «فايبر» لأنها تعرف سلفا أن الالتفاف على المنع لن يحتاج لأكثر من أيام قلائل، لتعود الخدمة إلى ما كانت عليه.

«إذا كنت لا تستطيع أن تقف في وجه المتغيرات، عليك أن تتعلم كيف تديرها» وأنت قد لا تربح بالضرورة، لكنك ستحد من الخسائر بالتأكيد. لهذا فإن تلفزيون «المنار» التابع لحزب الله، خصص برنامجا لموضوع الاختراقات الإلكترونية والتجسس وتوعية المواطنين على ما يمكن لإسرائيل أن تفعله بـ«داتا» اتصالات لشخص ما تحصل عليها. لم ينته البرنامج إلى أكثر من تمن على الدولة اللبنانية أن تصدر لوائح بهذه التطبيقات التواصلية الحديثة تبين مساوئ وخطورة استخدام كل منها، مع تأكيد المتحدثين أن هذا لن يخفض عدد المستخدمين، بل قد يزيدهم بإثارته للفضول. وبحسب أحد المتخصصين في الموضوع، فإن «العودة إلى الخلف هي أشبه بالحلم، وعلينا أن نتعلم كيف نتعامل مع الوضع الجديد»، الذي أصبح معه كل شيء ممكنا.

الوضع الجديد، ليس بعيدا عن السياسة، فالأنظمة الأكثر ديمقراطية تعترف اليوم بأنها في مأزق، وعليها أن تكون أكثر لدانة من المطاط كي تتمكن من اجتياز اختبارات تغير قواعد اللعبة الاقتصادية، وتبدل مراكز الثقل الإنتاجية، وتحول أمزجة الناس ومتطلباتهم، وانعكاسات كل هذا على شطرنج السياسة.

مجلة فرنسية كانت قد اعتبرت السنوات العشر الماضية هي «عشرية بن لادن»، وبهذه العبارة عنونت غلافها الرئيسي نهاية عام 2010، لكنها بعد ثمانية أعوام قد تكتب عن «عشرية ستيف جوبس» إمبراطور «أبل» الراحل، أو «عشرية مارك زكربرغ» صاحب فكرة «فيس بوك». فإذا كان بن لادن وجورج بوش، قد تحولا لرمزين سيئي السمعة، صبغا أعواما من أعمارنا بلون الدم، فإن أمثال جوبس وزكربرغ، ساهموا في إحداث انقلابات في الفكر الإنساني في الأعوام الأخيرة، لا يمكن لأحد أن يعرف تردداتها بعد.

فبينما لا تزال الدول الأوروبية في غالبيتها غارقة في التركيز على أساليبها التقليدية في العمل والإدارة، شرح ستيف جوبس أن أجهزة «أبل» بدءا من وليدها الأول، كومبيوتر «ماكينتوش»، شارك في صنعها إلى جانب التقنيين رسامون وشعراء وموسيقيون ومصورون، معتبرا أن الفنانين يضيفون على التكنولوجيا بعدا إنسانيا ورؤيويا ليس لغيرهم. وإذا كانت كبريات الشركات تعتبر أن الدراسات التي ترصد ذوق المستهلكين هي دليلها في التصنيع والتسويق فإن عبقري «أبل» يخبرنا بأن شركته لم يسبق لها أبدا أن هدرت وقتها في مثل هذه الدراسات، فهي تكتفي، وهذا أجدى لها، بأن تقدم منتجا متقنا ومثقفا، وتترك للناس على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم وأذواقهم، أن يعجبوا به أو يرفضوه.

ليس موضوعنا هنا هو جوبس ولو كان يستحق كتابا لا مقالا، ولا زكربرغ، الذي ملأ «فيس بوكه» الدنيا وشغل الناس، وإنما القول بأن سرعة المتغيرات، باتت تطيح لا بأنظمة ديكتاتورية عربية فقط، وإنما بحضارات واقتصادات عريقة، وهو ما بات يشغل الباحثين، كل في اختصاصه، ويقض مضاجعهم. الباحث الفرنسي جيرار مونبان، المتخصص في الإدارة الناجحة، خلص إلى أننا في زمن عليك فيه «أن تختار بين أن تتغير أو أن تختفي»، وأن «المستقبل هو ملك فقط لمن يتطورون». وبما أن المتغيرات لم تعد تترك لنا مجالا للاختيار بأن نقبلها أو نرفضها، وهو ما لم تدركه الديكتاتوريات العربية بعد، فإن غاية ما يمكننا فعله هو إدارة هذه التحولات بالتي هي أحسن. وفي هذا يقول الباحث مونبان «إدارة التحولات تعني قبول العبور طوعا من حالة توازن إلى حالة أخرى مختلفة تماما، مع امتلاك مهارة إدارة المحطات الانتقالية الغنية باللايقين واللاتوازن».