ماذا يحدث عندما تهتز الثقة؟

TT

في أثناء إقامتي في الولايات المتحدة الأميركية، قبل أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، كنت أصطحب من يزورني في واشنطن إلى المطار لدى مغادرته أميركا، بل أوصله حتى باب الطائرة من دون أن يطلب مني أحد إبراز هويتي المدنية، وهي ثقة كبيرة بالمسافرين لم أجدها بأي دولة في العالم، حيث إن إجراءات السفر الأميركية لا تتطلب آنذاك سوى تواجدك قبيل السفر بنصف ساعة. أما بعد فاجعة ضرب الطائرتين المخطوفتين لأكبر ناطحتي سحاب في نيويورك، فقد وجد المسافرون أنفسهم مجبورين على التواجد قبل ساعتين ونصف الساعة، واضطرت الجهات المسؤولة هناك، وفي العالم كله، لإنفاق مبالغ طائلة مجتمعة، فضلا عن تعيين عدد أكبر من الموظفين وأجهزة حديثة للتفتيش الدقيق. باختصار، صارت «التكلفة المادية» أعلى بعد أن اهتزت ثقة المسؤولين بالمسافرين وانخفضت سرعة إجراءات العمل.

هذا باختصار ما لمح إلى فكرته «ستيفن إم آر كوفي» في كتابه الرائع «Speed of Trust» حيث أظهر أنه عندما «ينخفض مستوى ثقتنا» بالآخرين ترتفع «التكلفة» المادية وتنخفض «سرعة» إنجاز الأمور، وحينما يرتفع مقدار ثقتنا بهم «تنخفض التكلفة وترتفع السرعة». وهو ما ينطبق على المثال الذي استشهد به وهو قصة بائع متجول في نيويورك كان يبيع الكعك المحلَّى (Donuts)، ويعاني زبائنه من طول طابور الانتظار الممل، الأمر الذي دفع بعضهم للبحث عن مقهى بديل. إلا أن البائع تدارك الموقف فوضع إناء ليلقي فيه الزبون مبلغ الحلوى فور استلامه لطلبه ثم ينصرف، من منطلق الثقة، وكانت النتيجة أن الطابور صار أقصر وأسرع حركة فقلت تكلفة انتظار الزبائن، أو تحديدا إهدار أوقاتهم، وذلك بفضل مبدأ الثقة، بل وجد البائع أن الزبائن قد ردوا له الجميل بأن صاروا يضعون مبالغ أكثر «كبخشيش»!

والأمر نفسه ينطبق على سائر شؤون حياتنا، فحينما لا نثق بالموظف، أو لا نحاول أن نمنحه فرصة لإثبات قدراته، سنضطر إلى تعيين آخر ربما يكون أعلى تكلفة وقد لا يؤدي عمله على النحو المطلوب، أو أن نعين فوقه فريقا ما، أو نرفع من عدد التوقيعات المعتمدة فتتعطل الإجراءات.

إن مسألة الثقة هي أصل كل الأعمال والعلاقات في العالم، فنشاهد، مثلا، في البرلمانات حينما يستجوب وزير ما ثم لا يقدم ردودا مقنعة فإن النواب يطرحون الثقة به، وهو بمثابة الإعدام السياسي. وكذلك الحال في الجمعيات العامة للشركات. وكم من حكومة وزعيم لامع سقط مع اهتزاز ثقة الناس فيه.

ويمكن للثقة أن تهتز عند كثرة الأخطاء غير المبررة، أو اللامبالاة، أو عدم وجود رصيد كاف من الأعمال المتقنة في السابق. فالثقة مثل الرصيد البنكي لا بد أن نودع فيه تصرفات إيجابية وأداء يفوق التوقعات حتى نحظى، مع مرور الوقت، بثقة زملائنا وأصدقائنا وأقربائنا.

وحتى لا تهتز ثقة الناس بنا لا بد أن نبادر نحن بالخطوات الأولى، لأن الثقة لا تمنح بل تكتسب، وذلك باستبدال الأفعال بالأقوال حتى يثق فينا من حولنا.. ثقة عمياء!

[email protected]