استيعاب التراث قصد مجاوزته

TT

الأصل في المقال الذي نشرته، قبل 3 أسابيع، تحت عنوان «ابن خلدون لم يؤسس علم الاجتماع»، بحث تقدمت به إلى أحد اللقاءات العلمية العربية. غير أنني فوجئت، إلى حد ما فقط، بما أثارته مقالتي في صفحة الرأي من ضجة لم أكن أهدف إليها، ضجة أتحدث عنها بدلالة ما قرأته في الشبكة، في موقع «الشرق الأوسط» تعليقا على مقالتي الأسبوعية، وبدلالة ما حاورني فيه مجموعة من الشباب خاصة. وما يعنيني من الضجة وما أقصده بالرجوع إلى ابن خلدون (أو بالأحرى من رجوع إلى قضية التراث العربي الإسلامي وكيفية النظر فيه والأخذ منه أو الانصراف عنه) هو الوقوف عند سمة أرى أنها تلازم العقل العربي الإسلامي المعاصر، منذ عصر النهضة، سمة سأتحدث عنها بعد قليل، بينما كنت أحسب خطأ أن الأسباب الحاملة عليها قد ولت وانتهت. والسمة هذه هي النظر إلى العلامات البارزة الهامة في تراثنا العربي الإسلامي بحسبانها جواهر نرصع بها تاج هويتنا، ونذكرها في باب الفخر والاعتزاز دون أن نهتم بما وراء ذلك. لعل النعت الكافي في ذلك هو العبارة العربية المأثورة «كان أبي»، فنحن نفخر بأن آباءنا وأجدادنا كانوا سادة العالم، في زمانهم، وكانوا سابقين في حقول العلم والمعرفة، فكل من أتى بعدهم كان كلاًّ (كما في القول القرآني الكريم) أو كان عالة على هذا العلم أو ذاك من أعلام الفكر والعلم في العصر العربي الغابر. وأرجو من القارئ الكريم أن يتمعن معي في هذا البيت الشعري:

حَلَفَ الزَّمَانُ لَيَأْتِيَنَّ بِمِثْلِهِ

حَنَثَتْ يَمِينُكَ يَا زَمَانُ فَكَفِّرِ

والقصد، كما هو واضح، أن الشخص موضع المدح في البيت المذكور لا يجود الدهر بمثله مرتين أبدا، فهو أول وأوحد، وكل القادمين بعده عيال عليه.

وعظيمنا عبد الرحمن ابن خلدون كذلك، في قول الكثيرين، بل وهم الجمهرة العريضة. والمؤسف أن أكثر المتفاخرين بعبقرية صاحب «المقدمة» لا يكادون يعرفون عن الرجل شيئا، بل إن أكثر الكثيرين لم يكونوا يعلمون أن مؤلف «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» كان فقيها فروعيا (نسبة إلى فقه الفروع، أو الفقه في معناه المعتاد عند الناس)، وأنه كان يحترف مهنة القضاء، وأنه ولي قضاء المالكية في مصر. ولم يكونوا يعلمون أنه كتب في فقه الأصول تلخيصا وتأليفا، وأنه في فترة من الفترات اشتغل به مدرسا. تبين لي، في ما كان من حديث عن ابن خلدون، أن أغلب المتحدثين والمعلقين غاظهم أن يُذكر رمز من رموز ثقافتنا العربية الإسلامية بما يعد نقيصة أو يكون فيه موضع شك.

ابن خلدون العظيم كان كذلك لأنه أنشأ علما جديدا هو علم الاجتماع أو السوسيولوجيا وليس لسبب آخر. أكاد أجزم أن الكثرة من القائلين ما قرأوا كتاب «المقدمة»، وما تبينوا دلالة علم الاجتماع باعتباره علما يدرس الظواهر الاجتماعية ويعتبر الظاهرة الاجتماعية «شيئا» قابلا للملاحظة الكمية، خاضعا للمراقبة العلمية الدقيقة، كما يوضح ذلك أحد كبار العلم ومؤسسيه على الحقيقة وهو إميل دور كهايم.

نعم، أسس ابن خلدون علما جديدا لكنّ له اسما معلوما وموضوعا محددا ومنهجا في النظر، مثلما أنه ينتهي إلى صياغة قوانين، وهذه الأمور الثلاثة (الموضوع المستقل عن غيره من الموضوعات الأخرى، والمنهج المناسب والمميز، والقوانين الدقيقة) هي السمة التي تجعل معرفة من المعارف ترقى إلى مرتبة العلم من جهة علم المعرفة أو الابستيمولوجيا.

والعلم الذي كان ابن خلدون صاحبه حقا وأبدع فيه الإبداع كله له عند صاحبه اسم معلوم هو «العمران» أو «العمران البشري»، و«العمران» كما يقول متكلمة الإسلام غير، وعلم الاجتماع أو السوسيولوجيا غير (بمعنى أنهما غيران، مختلفان ومتمايزان).

لعلي في حاجة إلى التذكير، ثانية، بحقيقة أولية أعتذر للرجوع إليها مرة أخرى: لا يمكن لعلم من العلوم أن يولد ويظهر إلا إذا توافرت له جملة من الشروط المعرفية، والتاريخية، والاجتماعية (في المرتبة الثالثة). وعلم الاجتماع لم يكن من الممكن أن تكتمل له أسباب الميلاد إلا في القرن التاسع عشر (خمسة قرون بعد وفاة ابن خلدون). كان لا بد من الثورات المعرفية التي حدثت منذ الثورة الكوبرنيكية أولا، ثم مجمل الكشوف العلمية والتحولات في حقل المعرفة على النحو الذي أتى به عصر النهضة في القرن السادس عشر الميلادي. ثم كان لا بد من تكون سلسلة العلوم، الآخذ بعضها بناصية البعض الآخر، والممهد بعضها للبعض الآخر، التي أخذت في التكون على امتداد القرون 17 و18 و19. العلم الجديد أشبه شيء بالثمرة، لا بد لها من أطوار تمر بها قبل أن تصبح تامة النضج وتغدو ثمرة (أو فاكهة) يمكن جنيها.

أرجع الآن إلى ما ابتدأت به فأقول: ما نحن في حاجة إليه، في قراءتنا للتراث العربي الإسلامي وفي الاستمداد منه، بل وفي الاستناد إليه من أجل الاطمئنان على هويتنا الثقافية المميزة، هو ما يكون للمرء أن يفعله في مثل حالنا. نحن في حاجة إلى الرجوع إلى ذلك التراث قصد الانتفاع به، وذلك لا يكون إلا بمعرفته المعرفة الصحيحة، قصد مجاوزته.

يحضرني في هذا المقام قول الإمام مالك في معرض القول في شرعية الاختلاف والرد على صاحب كل قول. كل كتاب يؤخذ منه ويردّ عليه إلا كتاب الله تعالى، وقول كل إنسان يؤخذ منه ويرد عليه إلا قول المصطفى عليه صلوات الله وسلامه. والإشكال أن ابن خلدون لم يقُل ولم يدّعِ شيئا إلا أن يكون قد أنشأ علما اكتسب كل أسباب النشأة والظهور. وصاحب «المقدمة» الذي علمنا معنى الانتباه إلى طبائع الأشياء نبهنا إلى الأسباب التي تحمل على الكذب في الخبر التاريخي، ومن ثم الخطأ في الحكم العلمي، فجعل ما سماه «الذهول عن المقاصد» في مقدمة تلك الأسباب.. حري بنا أن نتعلم درسه ونستوعب تعليمه وحكمته. كون ابن خلدون قد أنشأ علم الاجتماع (كما يتوهم الكثيرون خطأ) أو كونه لم يكن كذلك، خصام قديم، وقول خاض فيه المفكرون العرب منذ أن ألف طه حسين كتابه عن الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون في مطالع عشرينات القرن الماضي. ليس هذا ما يعنيني ولا ما يحملني على الهمّ والقلق، وإنما الداعي إلى ذلك هو هذا الحال من الجمود التي يأبى العقل العربي الإسلامي، في تجلياته عند الجمهرة الكثيرة، أن يظل عليها.

نحن في حاجة إلى مجاوزة حال كانت لها مبررات سيكولوجية ودوافع آيديولوجية إذ كنا نرسف في أغلال الاستعمار، وكانت هويتنا العربية الإسلامية مهددة بالإبادة. أما اليوم فالشأن غير ذلك. نعم، تتهددنا أخطار كثيرة، غير أنها ليست من جنس تلك التي كانت تحدق بنا قبل قرن واحد من اليوم.

هذا نمط من أنماط الانتفاض نحن في حاجة إليه اليوم، في زمن الانتفاض العربي.