الملف النووي الإيراني والفُرَص الإيرانية الجديدة!

TT

كانت المحادثات الدولية/ الإيرانية بشأن البرنامج النووي في إسطنبول بين 14 و16 أبريل (نيسان) فُرصةً نادرةً لتأمُّل المشهد الدولي والتوازُنات الدولية بعد أحداث الربيع العربي. فقد أحدث الربيع العربي اختلالاتٍ كبرى في التوازنات الإقليمية التي كانت قائمةً منذ عام 2003، عام غزو العراق. وقد حدث الاختلال الأول لصالح الولايات المتحدة وإيران، وأفادت منه فيما بعد إسرائيل وتركيا.

فبالنسبة للولايات المتحدة، كان هناك تثبيتٌ للهيمنة الأوحدية بعد الحرب الباردة والتي كانت أُولى أدلتها حرب الخليج الثانية على العراق، وأتت الحرب الثالثةُ لإسقاط الرئيس والنظام والدولة، فتكسب الولايات المتحدة بلدا بتروليا رئيسيا، وتكون واثقةً من الانتصار على نظام تعرفه جيدا وتعرف قدراته، وتفيد إسرائيل بالتخلُّص من بلد عربي رئيسي، وتقيم شراكةً مستقرةً مع إيران بعد طول توترٍ وتوتير منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979، وتزيد العرب خوفا ورهبةً وانمحاءً بعد إغارة الأُصولية السنية/ الخليجية عليها عام 2001. وكما يبدو من مذكرات نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام، والتي صدرت هذه الأيام بعنوان: «التحالف السوري الإيراني والمنطقة»؛ فإنّ الإيرانيين ما كانوا شديدي الترحيب بالحرب الأميركية على صدّام، لخوفهم من عواقب الوجود الأميركي على حدودهم. لكنهم من جهةٍ أُخرى كانوا واثقين هم والسوريون أنّ أميركا ستحتاج إليهم أو إلى حلفائهم في المعارضة العراقية المقيمين بإيران وسوريا، كما أنها ستنسحب عاجلا أو آجِلا فيكونون هم الوارثين والرابحين، وكما في العراق، ربما أيضا في أفغانستان!

وقد بدأت المشكلات بالفعل بين الولايات المتحدة وإيران عام 2006/2007، وليس بسبب محاولات الاستيلاء على السلطة في العراق بحضور الأميركيين وحسْب؛ بل وبإقبال إيران السريع على تطوير منشآتها النووية. ففي عام 2006 عطّلت إيران آلية التفاوض مع «دول الجوار العراقي» أي السعودية والأردن وتركيا، وبدأ الحديث عن أفعال «فيلق القدس» الذي يقوده الجنرال سليماني في الداخل العراقي. وفي الجانب النووي، اعتقدت إيران أنّ الأميركيين محتاجون إليها بشدة وسط عداء الجمهور العربي لها، ولذا فسوف يغضُّون الطرْف عن النوويات، كما سبق أن فعلوا مع باكستان في الثمانينات من القرن الماضي، عندما كانت تساعدهم ضد السوفيات في أفغانستان. لكنّ الولايات المتحدة انزعجت من الأمرين: التسرُّع في السيطرة على العراق بالمباشر، ومن خلال الأحزاب الشيعية، وبخاصةٍ حزب الدعوة بقيادة الجعفري فالمالكي، وحزب مقتدى الصدر، ومحاولة جَعْل المشروع النووي الإيراني أمرا واقعا.

وقد شكا كلٌّ من الطرفين أنّ الطرف الآخر أخلَّ بالاتفاق فيما بينهما: الإيرانيون قالوا إنّ الأميركيين ناكرون للجميل، فقد ساعدوهم في أفغانستان والعراق. والأميركيون قالوا إنّ الإيرانيين سلطويون وعدوانيون قليلو الصبر، وما تعاونوا كما يجب في مكافحة الإرهاب، ثم إنهم ماضون بسرعةٍ في تطوير برنامجهم للصواريخ البالستية، ولملفّهم النووي رغم معرفتهم بما يثيره ذلك لدى الإسرائيليين والعرب من مخاوف وتوجسات، وفي حين ظلُّوا يتجاذبون مع الإيرانيين بشأن ترتيبات السلطة بالعراق حتى خروجهم منه لصالح الإيرانيين عام 2011؛ فإنهم أشركوا معهم في التفاوض على النووي الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن + ألمانيا + الوكالة الدولية للطاقة. وفي السنوات الثلاث الأُولى (2006 - 2009) تولّت الوكالة الدولية مسائل التجاذُبات مع إيران بشأن النووي، وعندما ازدادت اشتباهاتُها نادت مجلس الأمن لمعاونتها.

ومنذ ذلك الحين صدرت أربعة قراراتٍ عن المجلس (بموافقة الصين وروسيا) تفرض عقوباتٍ على إيران، إضافةً إلى العقوبات الخانقة التي أصدرتها الولايات المتحدة منفردةً أو بالتشارك مع دول الاتحاد الأوروبي في العامين 2011 و2012. وقد هدَّدت وكالة الطاقة مرارا بقطع المفاوضات إن لم توقف إيران التخصيب، وإن لم تُخضع سائر المنشآت القديمة والحديثة لرقابة الوكالة، بما يضمنُ إزالة الاشتباهات في البرنامج، وعدم إقدام إيران على إنتاج القنبلة النووية عندما تصل إلى حدود القدرة على ذلك. وما رفضت إيران زيارات خبراء الوكالة، لكنها قيدت حركاتهم وقدراتهم، مما دفعهم إلى الإعلان أخيرا عن أنّ الأمل ضعيف في استجابة إيران لطلباتهم. ولذلك فقد كان الاجتماع الأخير للوكالة الدولية + آلية الـ5 + 1 + إيران، شديد الأهمية لعدة أسباب: أنه يأتي بعد تشديد الخناق على إيران بالعقوبات، وأنه يأتي بعد اتفاق الولايات المتحدة وروسيا على عرْضٍ مشتركٍ وأخير، وأنه يأتي بعد شهورٍ طويلةٍ من التهديدات الإسرائيلية بالإغارة منفردةً على المنشآت النووية الإيرانية إذا اقتضى الأمر لمنْع إيران من الحصول على أسلحة دمارٍ شامل.

والعرْض الأميركي الروسي مُغْرٍ بالفعل، فهو يُقرُّ لإيران بالحقّ في التخصيب في الداخل، لكنه يربطها بالحصول على اليورانيوم من جانب المجتمع الدولي، وتحت الرقابة الشديدة لوكالة الطاقة. وقد تجاوبت إيران مع العرض، لكنها طلبت مهلةً لدراسته، كما تفعل دائما. وستستغرق الدراسة ثمانية إلى عشرة أسابيع، وهي تطلب في مقابل ذلك رفع العقوبات، وأن يكون الاجتماع القادم ببغداد، وبالطبع لن ترفع المجموعة الدولية العقوبات، إنما من ناحيةٍ ثانيةٍ حصلت إيران على مهلة أو فرصة أو «هدية» - بحسب التعبير الإسرائيلي - وسيراقب الطرفان كلٌّ منهما الآخر من حيث التصرفات والتصريحات، ليس لجهة النووي فقط؛ بل ولجهة التصرفات إزاء الوضع المضطرب بالمنطقة.

إنّ مسألة النووي مسألةٌ استراتيجيةٌ بالغة الأهمية بالطبع، لكنها لا تتعلق باليوم والآن. بينما المتعلّق باليوم والآن هي الضغوط المتبادلة بين الطرفين أو الأطراف في العراق وسوريا ولبنان والخليج. والمعروف أنّ الإيرانيين رفعوا من درجة التوتر في كلّ مكانٍ، وكانت آخرها زيارة الرئيس نجاد إلى الجزر الإماراتية التي تحتلُّها طهران منذ عام 1971، وما زارها رئيسٌ إيراني من قبل. ثم إنّ روسيا والصين وإيران حمت النظام السوري طوال العام الماضي وحتى الآن من التدخل الخارجي لإيقاف عنفه ضد شعبه، في الوقت الذي قدمت له فيه كلَّ وسائل الدعم اللوجستية والعسكرية والمادية.

دخلت روسيا أخيرا شريكا للغرب في الملفّ السوري، والملفّ النووي الإيراني: فمن الذي تُعتبرُ يداه مقيدةً الآن خلال فترة «الهدنة» المقررة؟ هل الدوليون، أم الإيرانيون أم الطرفان؟ إنّ الانطباع الأوَّلي يشير إلى أنّ الإيرانيين متضايقون جدا من الحصار، وأنهم قد يؤجّلون بالفعل القنبلة إنْ كان في نيتهم إنتاجها من قبل، وبذلك يتجنبون الحرب ضدَّهم، ويرجون التفكُّك التدريجي للحصار، إنما في مقابل المساومة على مناطق النفوذ في العالم العربي.

لقد ضاع عليهم الملفّ الفلسطيني، وانصرفت عنهم الشعوب العربية. لكنهم متجذرون بالعراق وإنْ على قلقٍ من السنة والأكراد والتركمان. وما تزال لهم اليد العليا - على قلقٍ شديدٍ أيضا - في سوريا ولبنان: فماذا سيفعلون خلال الشهرين القادمين؟ هل يلتزمون بآداب السلوك التي تقضيها الهدنة؟ الأرجح أنهم سيستمرون في الضغط الشديد، رجاءَ كسْب نقاطٍ عندما يعودون للتفاوض من جهة، ولأنهم يريدون تثبيت المواقع التي كسبوها أيام الرئيس بوش ضمن الشرق الأوسط الكبير الذي صاروا جزءًا بارزا فيه قبل الربيع العربي، إلى جانب إسرائيل وتركيا.. والعرب!