حلم بائع متجول

TT

كان دائما يذكرني بشخصية ويلي لومان في مسرحية «موت بائع متجول» لآرثر ميلر. يقوم كل يوم بتوقيته الخاص إلى العمل ويعود كل مساء بتوقيت التعب والخوف من أن يكون الغد مثل اليوم: لا مبيعات عند الأبواب التي يقرعها، عارضا ما يقول إنه مساطر أو نماذج من أفضل الأقمشة الصينية، حرير شفاف تستطيع الرؤية عبره من خلال خمس طبقات.

جرب جميع أنواع المبيعات: الأدوية، الأقمشة، العطور، المكانس الكهربائية، الكتب.. منذ أفاق وهو يعرض على البيوت والشركات والدكاكين والصيدليات شيئا ما. يوفَّق أحيانا ويخيب أحيانا، والحقيبة غليظة دائما. لكن كان له هم واحد: ألا يكرر أبناؤه حمل هذه الحقيبة الجلدية وقرع الأبواب والأجوبة الفجة. عندما نجح الابن البكر في المحاماة راح يحلم به بأن يصبح رئيسا للجمهورية، عندما نجح الابن الثاني في البكالوريا أراده أن يصبح مثل روكفلر، عندما نجحت ابنته قال لها سوف تصبحين أهم طبيبة في لبنان.

كل شيء سار بطيئا من حوله إلا هو، استعجل الخروج من البيت وقرع أبواب الآخرين وجمع ما يكفي لأن يصبح الابن الأكبر رئيسا للجمهورية والثاني روكفلر والابنة مدام كوري. بالفعل أصبح الابن الأكبر محاميا، والثاني أستاذا في الرياضيات، والابنة دكتورة في الصيدلة، لكن ليس أكثر من ذلك، وظل هو يخرج ويعود متعبا، يأكل وجبته الوحيدة في اليوم، يتطلع في وجوه العائلة: هل من جديد اليوم؟ هل أصبحت الرئاسة على الأبواب؟ هل يترك روكفلر التدريس لتأسيس مصرف؟ هل اخترعت ابنته دواء جديدا؟

كان الجواب في الوجوه واحدا: آسفون. ثم بدأت العائلة تكبر خارج البيت الذي لم يضِف إليه كرسيا واحدا منذ زواجه: الابنة تزوجت، ثم الابن الثاني، ثم الابن الرئيس. واقتنع أن الفرص ضاعت عليه.. أبناء البياعين لا يصبحون روكفلر من إرث الأب وحقيبته العتيقة وجولاته الأسطورية على الأقدام، كل يوم، كل عام، كل العمر.

كنت أقرأ حزنه على وجهه، وتعبه كان يقرأه الجميع، وزوجته كانت تحاول أن تقنعه بأن العائلة في ألف خير: محامٍ وطبيبة وأستاذ.. ماذا تريد أكثر من ذلك؟ يريد أن يثأر من قرع الأبواب، يريد رئيسا للجمهورية يقرع بابه الكبار، وروكفلر يقترض منه الأغنياء، وصيدلانية تخترع الأدوية للمرضى وليس فقط تبيعها لهم.

ثم ذات يوم شاهدته وقد انتصبت كتفاه بعد انحناء، وبدا على وجهه فرح راقص، ولم تكن حقيبته معه. سألته: كيف الحال أبا يوسف؟ قال: «أي حال؟ لقد رزق يوسف صبيا، وسوف يكون رئيسا للجمهورية».