متسولون أمام البورصة!

TT

السياسة هي فن الممكن، ويقال أيضا إنها مجال بلا أخلاق مؤسس على المصلحة ولا شيء غير المصلحة. هكذا وصف الكثير من الساسة والخبراء المتخصصين في علم السياسة الفعل السياسي.

ولا نعتقد أن الهدف من مثل هذا الوصف الحط من شأن الفعل السياسي أو توجيه شتائم غير مباشرة لكل من يعمل بالسياسة، بل أغلب الظن أن هذه الأوصاف وغيرها تعبر عن محاولة لتوصيف الفعل السياسي بدقة، أي من دون زيادة أو نقصان، ومن دون تلميع أو تشويه.

ففي هذا الإطار من الاستيعاب الموضوعي للعمل السياسي سمحنا لأنفسنا بالانبهار بعدة شخصيات سياسية قيادية، رغم ما عرفته مسيرة الأغلبية منها من انزلاقات خطيرة ومن قرارات وحشية أضرت بسلام العالم وأمنه.

لكن جل الساسة العرب رغم أن الأغلبية منهم يفعلون ما يحلو لهم داخل مربع حكمهم، فإنهم يتحولون إلى ساسة مثاليين في غاية الوداعة والطيبة في ملفات السياسة الخارجية. أي أن حدود المكر السياسي تقف عند الحدود الجغرافية، وفي أفضل الحالات تشمل الجيران في الجغرافيا والانتماء الثقافي والحضاري.

طبعا في مرحلة الحرب الباردة كانت المواقف موزعة، والموالاة محددة بدقة، لكن الغريب أنه حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والتغييرات التي عرفتها السياسة الدولية، فإن معظم الساسة العرب ظلوا على التعامل السلبي نفسه في قضايا السياسة الخارجية، ولم يفهم الكثير منهم أن تلك القضايا والملفات هي أكثر ربحا من كل مداخيل التجارة الخارجية، وأن السياسة الخارجية هي في حد ذاتها تجارة من النوع الثقيل، وكلما نشطت الدبلوماسية تحركت رؤوس الأموال وفُتحت الأسواق وأمطرت المشاريع والمساعدات.

بل إن مجلس الأمن نفسه، وتلك الأيادي التي ترفع مؤيدة لحق استخدام الفيتو أو مانعة له، وما يدور في أروقته من مفاوضات وحوارات ونقاشات جانبية وغيرها، إنما هي حركة بيع وشراء ومنافسة في قلب البورصة الحقيقية.

في الحقيقة هناك متغيرات طرأت اليوم على الشعوب العربية من المفترض أن تُترجم في مجال السياسة الخارجية، خصوصا في بلدان الربيع العربي، تونس وليبيا ومصر.

فإذا كان الحكام السابقون في تلك الدول قد حافظوا على كرسي الحكم لعقود بسبب ولاءات غربية تظهر آثارها في السياسة الخارجية لهذه البلدان، حيث هي سياسة تنفيذ الإملاءات والوقوف عند باب البورصة للتسول، فإن الظروف قد تغيرت وحصلت ثورات، والشعوب هي التي اختارت من يسوس مرحلة الانتقال الديمقراطي، ومن ثم فإن الثورات قد منحت للنخب السياسية الجديدة مضامين مشروعية سياسية، تعد مصدر قوة ونبرة عالية.

لكن يبدو أنه لا شيء تغير، رغم المتغيرات المهمة في مجال السياسة الخارجية. ما زلنا نقدم خدمات بالمجان ومن دون مقابل، وكأن تلك الملفات والمواقف شخصية بحتة وليست تحمل اسم الشعب الذي من حقه أن يرى ترجمة اقتصادية ومالية للمواقف التي تؤخذ باسمه بلفت النظر عن مدلولها القيمي الأخلاقي.

فمثلا ساركوزي عندما تحمس بين ليلة وضحاها لتقمص دور جورج بوش الابن وتزعم قوات التحالف، والنشاط الخلاق الذي قام به وزير خارجيته ولا يزال، ليس من أجل أن تنعم شعوبنا بالحرية والديمقراطية، بل بهدف فتح أسواق لفرنسا المنهكة التي تعاني من أزمة مالية وبطالة عالية النسبة. ومع ذلك لا يمكننا وصفه بالانتهازية إذا قرأنا خياراته قراءة سياسية صرفة، بل هو سياسي يفكر في مصلحة بلاده، ومن حقه أن يسلك كل الطرق ما دامت غايته معدة المواطن الفرنسي وجيبه. وهكذا يجب أن يفكر السياسي التونسي والليبي والمصري، ذلك أنه ما كان لأي ثورة أن تنجح لو أن شعوبنا امتنعت عن ذلك.

إن التجارة من المهن العربية القديمة، ولكن يبدو أننا أهملناها حتى أصبحنا غرباء، والقوافل تمر من ديارنا معبأة!

لذلك فإن حصول تغيير نوعي في السياسة الخارجية العربية ضرورة، لأن الخريطة الجيوسياسية بصدد إعادة التشكل، والأكثر شطارة من يرتب أوراقه مبكرا ليعرف كيف يلعب ومتى يلعب وبأي ثمن!