هنا القاهرة: مدينة الأنواء والعواصف والتحريض على القتل

TT

تنتهي عواصف السياسة في مصر على خير وبخسارة واحدة فقط مؤكدة هي ضياع الوقت والبدء من نقطة الصفر في كل مرة، وفي الأسبوع الماضي شاهدنا عواصف سياسية ترابية كثيرة تمنع الرؤية إلا في حدها الأدنى، ومنها العاصفة الأخيرة التي ثارت عقب زيارة مفتي الديار المصرية علي جمعة للقدس ضمن وفد أردني وهي العاصفة التي لن أتوقف عندها لغياب أي خطر منها. ومنها أيضا رفض لجنة الانتخابات الرئاسية لعشرة من المرشحين دفعة واحدة، استسلموا جميعا لحكم اللجنة ما عدا واحدا هو الشيخ حازم أبو إسماعيل الذي اعتصم في الشارع أمام اللجنة، محتجا على قرارها بأنه قد ثبت لديها من خلال وثائق الخارجية الأميركية، أن والدته حصلت على الجنسية الأميركية وبالتالي فإنه - طبقا للقانون - ليس من حقه الترشح للرئاسة. غير أنه ومريديه اعتصموا بمقولة واحدة هي: إنتم برضه بتصدقوا الأميركان؟

اشتم المصريون خطرا غامضا من موقفه وموقف أتباعه خشية أن يتطور إلى صدام تسقط فيه ضحايا ولكن ذلك لم يحدث حتى وقت كتابة هذا المقال (صباح الخميس 19 أبريل /نيسان 2012) غير أنه حدث منذ لحظات أن ظهر على صفحات التواصل الاجتماعي بيان من أحد الشيوخ السلفيين، وهو بيان جدير بأن أشركك في تحليله ومحاولة التعرف على الآثار التي ستنتج عنه والتي أرى أنها لن تحمل خيرا بحال من الأحوال. إنني أنشر هذا البيان ليس لقيمته وآثاره السياسية فقط، بل لبلاغته وقدرة كلماته المحرضة على التحول على الأرض إلى أفعال دامية ستقرأ عنها حتما في صفحات الجرائد الأولى. يقول البيان:

عاجل من الشيخ داود خيرت إلى الشيخ حازم أبو إسماعيل.

لم يعد في الأمر خيار بعد أن كشّر الكفر عن أنيابه وظهر عواره الذي كنا نعرفه منذ أول يوم. ليس هناك إلا خيار واحد أمامك، انزل إلى الميدان وخذ البيعة الشرعية وقف في وجه الكفر والطغيان، لا تستمر في هذا الهزل القضائي والطعون الباردة، فأنت تعلم ونحن نعلم أنه لن يجدي نفعا، هناك ملايين الشباب ممن يريدون الموت في سبيل الله، فقدهم إلى الجنة. الإخوان لم يخسروا شيئا فيما يحدث فهم يعبدون البرلمان وإلههم لا يزال تحت أقدامهم. أدعياء السلفية، ياسر برهامي، محمد عبد المقصود، يسري حماد وأشياعهم، هم عملاء العسكري وخونة مع أمن الدولة فلا تعولوا على هؤلاء الضالين من القادة والمشايخ. لكن أنت يا شيخ حازم لم يعد هناك خيار أمامك إلا البيعة ثم الخروج. لم يعد هناك وقت للمحاورة فقد أصدرت لجنة الكفر قرارها ولن ترجع فيه إلا على أيدي شباب الإسلام ونحن في انتظار قراركم..

الشيخ داود خيرت.

انتهى البيان، ويبدأ حديثنا عنه، كاتب هذا البيان هو شخص يعيش بيننا الآن بجسمه غير أنه بثقافته وعواطفه ما زال يعيش في عصر بعيد جدا وإذا كان يمثل مرحلة ما في تاريخ الدولة الإسلامية فهي بالتأكيد مرحلة الخوارج. غير أنني وإن كنت أقف ضد أفكاره على طول الخط، غير أن لدي من الإحساس بالعدل والقدرة على التذوق الفني، ما يجعلني أشهد له بالكفاءة غير العادية في استخدام الكلمات التي تذهب به إلى غرضه مباشرة، نحن هنا أمام أسلوب فذ في الكتابة والخطابة، بما يحمله من قدرة على التلخيص والتكثيف يحسده عليها أي كاتب محترف، أنظر إليه حين يقول «هناك ملايين الشباب ممن يريد الموت في سبيل الله، فقدهم إلى الجنة» كاتب هذه الكلمات يمثل كنزا دراسيا لنقاد الفن والأدب وأساتذة الطب النفسي، لأنه يكشف عن موهبة حادة خاصمت الحياة واتخذت قرارا بأن تعمل ضدها مستخدمة سلاحا يعرف صاحبها أنه كاذب كل الكذب. ملايين الشباب في مصر لا يريدون الموت في سبيل الله، ليس هذا مطلبهم، هم يطلبون وطنا آمنا عادلا منتجا يتيح لهم فرصة طيبة للإنتاج وتعليم أولادهم تعليما راقيا. هم لا يريدون زعيما يقودهم إلى الجنة، بل يساعدهم على التعامل مع الحياة ومتاعبها وتحويلها بقدر الاستطاعة إلى لقمة خبز وقطعة موسيقى وقطعة أمل. هم يريدون فقط أن يحيوا حياة حرة تماثل هؤلاء الذين سبقونا في طريق الحضارة. ومن أجل ذلك يريدون الديمقراطية، يريدون اختيار حكامهم في حرية، وفي الوقت نفسه يريدون مؤسسات ديمقراطية تراقب حكامهم وتمنعهم من الاستسلام لأهوائهم.

غير أنه وهو يطلب من الشيخ حازم أن يقودهم إلى الجنة، لم يقل لنا هل سيرافقهم إلى هناك، أم أنه لم يقرر الذهاب إلى هناك بعد نظرا لما ينتظره من مهام على الأرض؟ ما الذي جعله بهذا الوثوق أن الشيخ حازم سيلبي طلبه؟ هل ذلك هو هدف الشيخ حازم من اشتغاله بالسياسة وترشحه لكي يكون رئيسا للمصريين جميعا. إنني أستبعد ذلك تماما، بعد أن التزم الرجل بالخطوات الديمقراطية وبالقانون. لأكن مخطئا في ظني، غير أنني على يقين بأنه لن يرحب بموت ملايين الشباب حتى لو كان مقتنعا بأن الكفر قد كشّر عن أنيابه.

بالطبع لست أعرف ما حدث يوم الجمعة الماضي في ميدان التحرير، غير أنني أفكر في أنه من الطبيعي أن يبايع عشرات آلاف الشبان الشيخ حازم، بوصفه حاكما لمصر على الأقل، ومن الطبيعي أيضا أنه سيعجز عن الرفض، كيف يرفض زعيم الوقوف في مواجهة الكفر والكفار؟

العاجزون عن قراءة التاريخ قراءة صحيحة سيتعاملون مع هذا البيان على أنه نوع من العبث أو التطرف التقليدي، رجل يشتم ويسب كل الناس علنا ويهين كل رموز كل الاتجاهات.. ما هو الخطر في ذلك؟ أنا أعتقد أن أول جثة تسقط على الأرض ستجيب عن هذا السؤال وتدفعهم للمزيد من دراسة التاريخ للتعرف على المزيد من ضحايا هذه الأفكار. إن تحويل الصراع السياسي في مصر إلى صراع بين المؤمنين والكفار أمر تتجاوز خطورته كل حد. وتحويل مفردات الحياة السياسية في مصر إلى مفردات دينية ليس لها صلة بأصول الحكم في زمننا هذا، أمر أكثر خطورة.

أنا على يقين من أنه لا يوجد في مصر ملايين من الشبان الذين سيهضمون هذه الدعوة الدموية أو يستجيبون لها بدرجة من الدرجات، غير أنه يكفي أن آلافا بينهم ستسحرهم هذه الدعوة ويندفعون بلا عقل لقتال ما يعتبرونه - وما يعتبره البيان أيضا - كفرا وكفارا كشروا عن أنيابهم.

إنني أقول: عندما يعجز مجتمع ما عن حماية نفسه بمؤسساته القضائية في مواجهة هذا النوع من التحريض، فهو بالتأكيد مجتمع يمر بمرحلة تجعله يستحق كل ما يحدث له من أضرار وخسائر.