محنة أكراد سوريا وقلقهم!

TT

تبدو محنة أكراد سوريا أكبر وأعمق وأصعب مما كانوا يتصورونها! لقد عانوا من ظلم وجور وقمع وصهر وإنكار النظام السوري لهم طيلة نصف قرن، وعانوا من تجاهل المعارضة السورية لهم ولمظالمهم طيلة نصف قرن أيضا! والآن، وفي زمن الثورة السورية على الاستبداد ونظام البعث، تبدو محنة الكرد أشد وطأة، بحيث يثورون على السلطة الظالمة ومعارضتها الظالمة! وهنا، لا تختلف المعارضة السورية كثيرا عن المعارضة التركية، حين يتعلق الأمر بالكرد واستحقاقاتهم القومية والوطنية والديمقراطية والحضارية.. ذلك أنه يمكن للمعارضة أن تختلف مع السلطة في كل شيء، إلا في ما خص الوجود القومي والحضاري المتجذر للكرد في الجغرافيا التي تسمى الآن سوريا. وإذا كان القوميون الترك والعرب والفرس، الذين حكموا تركيا باسم العلمانية، وإيران باسم الدين والخمينية - الشيعية، وسوريا والعراق باسم العروبية - الاشتراكية، قد نجحوا، إلى حد ما، في تزوير التاريخ بما ينسجم و«رسالاتهم القومية الخالدة»، فقطعا لا يمكنهم تزوير الجغرافيا!

وهناك تصريح منسوب لبرهان غليون، رئيس المجلس الوطني السوري يقول: «لن نمنح الفيدرالية للكرد السوريين. وهي وهم! ولن نمنحهم الحكم الذاتي أيضا»، رغم أن الشعب الكردي في سوريا يناهز تعداده 3 ملايين نسمة. وهذه الأمور، يمكن مناقشتها على طاولة السياسة، وهل يستحق الكرد الفيدرالية أو الحكم الذاتي وفق القانون الدولي وشريعة حقوق الإنسان، وانسجاما مع الواقع الجغرافي والديموغرافي للكرد في سوريا، أم لا. ولكن، أن ينفي وجود جزء للكرد في الخارطة الجغرافية لسوريا، فهذه لا يمكن مناقشتها في أروقة السياسة ولا علم الاجتماع والتاريخ والجغرافيا، لكون هذا الرأي والموقف ليس سقطة ناتجة عن جهل بحقائق التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع؛ بل هو خطأ بحق الواقع التاريخي، والجغرافي، والحضاري للوطن والشعب السوري، وطعنة في ظهر الشعب الكردي السوري. هذا الموقف لا يستوجب الإدانة والشجب فحسب؛ بل التعرية والفضح، لكونه ضد ما تم ذكره في الوثيقة الكردية التي أصدرها المجلس الوطني السوري مؤخرا. ولأن هذه الفعلة ليست الأولى التي تصدر عن غليون؛ إذ سبقها بتشبيه الشعب الكردي السوري بالمهاجرين العرب في فرنسا! ثم عاد واعتذر، فهذا التكرار في إصدار هكذا تصريحات، بالتأكيد، يثير قلق الشعب الكردي، وحراكه الثوري، ويفزع نخبه السياسية والثقافية.. ذلك أن الشعب الكردي، لم ينتفض ويثُر على طغمة الاستبداد البعثي الأسدي، ليستبدل مستبدا بمستبد.

الكثير من المراقبين، وحتى أطراف داخل المجلس الوطني السوري، ترى أن جماعة الإخوان المسلمين السورية، ومن خلفها حكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، هي التي تقف وراء تلك التصريحات، وأن غليون مجرد واجهة، علمانية، قومية، عروبية، لا غير. ولقد كرر المراقب السابق للجماعة، علي صدر الدين البيانوني، في أكثر من مناسبة، أنهم أتوا بغليون، لإرضاء الغرب، وللاستفادة من بعض علاقاته الدولية، في حين أن تصريحات غليون الأخيرة لصحيفة «روداو» الكردية العراقية، التي ينفي فيها وجود كردستان سوريا، وأن حقوق الكرد، لا تتعدى توسيع صلاحيات الإدارة المحلية، هي في أصلها وفصلها رسالة ليس لكرد سوريا فحسب؛ بل لكرد العراق، والكرد في كل مكان.

ويبرز أستاذ علم الاجتماع، ومدير مركز دراسات الشرق في السوربون، حجته على نفي وجود كردستان سوريا، بالقول: «إنه لا توجد مناطق كردية صافية أو خالصة، بل توجد مناطق ذات غالبية كردية». وقياسا على هذه «الحجة» التي تقفز على حقائق التاريخ والجغرافيا، فدمشق أيضا، ليست عربية، وكذا حلب، لكونهما مدينتين ذواتي غالبية عربية.

والحق أن للكرد والسريان، في دمشق وحلب، ما للعرب؛ إذا لم يكن يتجاوزه! إذا أخذنا في الحسبان، العمق التاريخي والحضاري لهذين الشعبين في المنطقة. وعليه، تبدو حجة غليون، أكثر خطأ من نفيه وجود امتداد كردستاني في الجغرافيا السورية.

وأيضا يبدو هنا أن محنة الكرد والسريان في سوريا أكبر؛ حيث كيف لهم أن يقنعوا قادة المعارضة السورية، العروبيين، بأنهم شعب، له حضوره التاريخي والجغرافي المتداخل مع النسيج الوطني؛ الجغرافي والسياسي والنضالي.. ذلك أنه لا يستقيم الحديث عن الاعتراف بالوجود القومي لشعب، دون الاعتراف بالوجود التاريخي والجغرافي له. وهذا الاعتراف لا يعني التمهيد للانفصال، أو التحفيز والتحريض عليه. ولا يمكن تبرير أو تفسير نفي الوجود الجغرافي الكردستاني في سوريا، والتهرب من الاعتراف بأن الكرد شعب، يعيش على أرضه التي هي الآن جزء لا يتجزأ من سوريا، إلا بأنه تهرب من الاستحقاقات الوطنية والديمقراطية للشعب الكردي في سوريا ما بعد نظام الأسد.

مواقف كالتي يبديها غليون وكثير من المعارضين السوريين، ذوي التوجه العروبي، البعثوي، تخلق حالة من القلق والتوجس لدى الكرد، وهذا يصب في طاحونة نظام الأسد. وبذا، تبدو محنة الكرد أشد وأعمق، وقد تؤثر سلبا على حجم انخراطهم في الثورة، مع الإصرار على تثبيت حقوقهم لدى قوى المعارضة السورية، ورفض الأخيرة ذلك.. دون أن ننسى أن النظام بإمكانه الاشتغال على الحساسيات التي يثيرها غليون وجماعة الإخوان المسلمين، لجهة استمالة الكرد، ببعض الخطوات الكاذبة والزائفة، وإحداث افتراق بين الكرد والثورة على نظام الأسد.

على المعارضة السورية، عموما، والتيارات العروبية؛ الإسلامية والعلمانية، خلق الثقة لدى الكرد، لا أن تزيد من حالة القلق والخوف لديهم بأن جهودهم في الثورة ستذهب لصالح صراع المعارضة العروبية على السلطة ضد نظام الأسد، ويبقى حال الكرد على ما هو عليه، من إنكار للوجود القومي والجغرافي والحضاري والتاريخي، ضمن النسيج الوطني السوري، حيث دولة المجتمع.. دولة الحق والعدالة والمؤسسات.. دولة المواطن الكردي والسرياني والعربي والتركماني.. المسلم والمسيحي والأيزيدي.

فإذا كانت تصريحات غليون، تنم عن عدم معرفة، فالمصيبة كبيرة، لأن ذلك مؤشر على مدى الفقر المعرفي تجاه الحال الكردية في سوريا؛ جغرافيا وتاريخيا وحضاريا ونضاليا. وإذا كانت تصريحاته عن عمد، فإن المصيبة أكبر وأخطر.

* كاتب كردي سوري