نبذ النهج الميكيافيللي أولا!

TT

إحدى أهم وصايا الأب الروحي للزعماء النفعيين المتسلطين على رقاب الناس نيكولا ميكيافيللي صاحب نظرية «الغاية تبرر الوسيلة» أن يستعملوا كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتثبيت قبضتهم على الحكم، مثل الكذب والدجل والخسة بأنواعها والتنصل من الوعود والمواثيق المبرمة إن دعت الحاجة إلى ذلك من دون اعتبارات أخلاقية، «فلا توجد صلة بين الأخلاق والسياسة في برنامج الرجل»، وبإمكان الزعماء أن يمارسوا أقصى درجات القسوة والوحشية بحق شعوبهم أو الشعوب الأخرى إذا ما ساعدتهم على البقاء في السلطة لمدة أطول.

تأثر الكثير من قادة العالم المعاصرين بفكر هذا المجنون واقتفوا أثره وحفظوا نصائحه المدمرة عن ظهر قلب، وراحوا يطبقونها على الناس بالقوة الغاشمة، مما نتج عنها تدمير بلدان ونزوح شعوب وقتل ملايين من الناس، ولولا تصدي القوى المحبة للسلام لها، لانتهى العالم إلى كارثة حقيقية. وكثيرا ما يحقق القادة الميكيافيلليون انتصارات في ميادين الحرب والسياسة ولكنها انتصارات مؤقتة تعقبها هزائم منكرة لا يمكن توقعها؛ احتلت النازية والفاشية حيزا جماهيريا لفترة قصيرة نسبيا وأصبحتا موجة سياسية سائدة في وقت معين ولكن سرعان ما انطفأ بريقهما وغدتا رمزا للقمع والطغيان والديكتاتورية، وهكذا الحال مع الحزب الناصري والبعث العربي الاشتراكي والأحزاب العنصرية الأخرى، ومن المفارقات أن كل من التزم هذا الفكر المدمر وأراد أن يطبقه على الناس مني بهزيمة نكراء وسقط سقوطا مروعا، فأين موسوليني وهتلر وفرانكو وصدام والقذافي وحافظ الأسد وغيرهم من الزعماء الديكتاتوريين الذين أقاموا دولا وإمبراطوريات عظمى وحشدوا جيوشا جرارة وبنوا قوة جبارة على أساس من العدوانية والهمجية؟! أين ذهبت أحلامهم التوسعية واعتداءاتهم العنصرية؟! كلها تبخرت وذهبت أدراج الرياح، ماذا استطاع هتلر أن يحقق لبلاده أو لأوروبا، غير التقسيم والتدمير؟! وماذا قدم جمال عبد الناصر أو صدام حسين أو حافظ الأسد لشعوبهم أو للشعوب العربية من خدمات وانتصارات وإصلاحات سياسية، كما كانوا يدعون لها ويبشرون بها من خلال شعاراتهم وخطاباتهم الجوفاء؟! لم يقدموا لهم غير النكبات والانتكاسات والحروب الخاسرة، ففي زمن القائد الضرورة انفصل الشمال العراقي عن جنوبه وحدث شرخ اجتماعي وعرقي بين أبناء البلد الواحد، وفقدت سوريا هضبة الجولان الاستراتيجية على يد فارس «الثورة التصحيحية» وبطل مجزرة «حماه»، وبدل أن يوجه ابنه الضال قواته لاسترداد أرضه المغتصبة، وجهها على شعبه واستعمل ضدهم أبشع أنواع الأسلحة المحرمة، وما زال الحبل على الجرار!

استوعبت المجتمعات الغربية الدرس واتعظت من الأحداث المريرة التي عاشتها طويلا على يد هؤلاء القادة الشوفينيين، فبنت مؤسساتها على الصدق والشفافية والعدل ونظمت قوانينها وأضافت بنودا ومبادئ جديدة إلى دساتيرها لتحول دون ظهور ديكتاتوريات تقودها إلى المجهول، ولكننا نحن الشعوب العربية والعراقية بوجه خاص لم نصل بعد إلى هذه المرحلة من الشعور بالمسؤولية الحضارية، ولم نتعظ قط من السياسات القمعية التي كانت الحكومات المتعاقبة تمارسها ضدنا، بل ساهمنا بصورة أو بأخرى في صنع قادة وحكومات مستبدة، والمرة الوحيدة التي أعطيت للعراقيين فرصة لتغيير مسار حياتهم باتجاه الفكر الحر وبناء مؤسسات ديمقراطية متطورة كانت عقب سقوط النظام البعثي الفاشي ومجيء نظام ديمقراطي تعددي، وكان حلما جميلا أن ينشئ العراقيون نظاما سياسيا متطورا يضاهي الأنظمة الموجودة في الدول الغربية، ولكن لم يتحقق هذا الحلم على أرض الواقع رغم مرور تسع سنوات ولن يتحقق لسنوات أخرى، وذلك لسبب بسيط، وهو أن الأحزاب والكتل السياسية المتنفذة التي تدير دفة البلاد، ليست مؤهلة للقيام بمهمة نشر الديمقراطية، لأنها ليست ديمقراطية، مبادئها الأساسية تقوم على النزعة الفردية والزعيم الأوحد، فكيف تقام دولة ديمقراطية حديثة بمفاهيم وآليات غير ديمقراطية مهلهلة؟! هذا مستحيل، فـ«فاقد الشيء لا يعطيه» كما يقال، ويشاء الحظ السيئ أن تناط مسؤولية التحول الديمقراطي للعراق في أدق مراحله بحزب ديني طائفي النزعة، متزمت شديد الإيمان بمواهب القائد الضرورة وزعامته التاريخية، كحزب الدعوة، وقائد حالم مثل المالكي، الذي يسعى جاهدا لبسط نفوذه على مرافق الدولة الأساسية والاستحواذ على السلطات وإقصاء الآخرين، والصورة واضحة لا تحتاج إلى تفصيل.

من غير الممكن أن يشهد العراق تحولا ديمقراطيا منشودا ما لم تغير الكتل والأحزاب السياسية الرئيسية من نهجها المصلحي الحزبي الضيق وتتبنى مفاهيم ديمقراطية حقيقية لتتناسب مع الوضع الجديد، وهي عملية صعبة ومعقدة تحتاج إلى التفاني والتصميم ونكران الذات أكثر من احتياجها إلى طرح المبادرات الفاشلة وإعطاء الوعود الكاذبة وتوقيع الاتفاقيات والمواثيق التي لا طائل من ورائها.. فكل محاولة تسبق هذا الإجراء تعتبر ضربا من العبث.