قريته أم عالمه؟

TT

كتب الشاعر أنسي الحاج قطعة أدبية مذهبة حول أدباء وشعراء القرية والجبل في لبنان القرن الماضي. وانتهى إلى سطور رومانسية يرفض فيها كل ما هو آلي وحديث ويعدد تلك المعالم التي يحن إليها، من موقدة الحطب إلى زهور البرية. لولا أسلوب أنسي الحاج، لبدا هذا الكلام مكتوبا في كل البلدان.. في كل الأزمان. كتّاب القرن التاسع عشر كانوا يذوبون حنينا إلى حياة القرن الثامن عشر. شعراء المهجر كانوا يعيشون في نيويورك (وبينهم جبران خليل جبران) ويحنون إلى قرى صغيرة لا كهرباء فيها ولا طرقات.

لقد صنع لنا المخترعون عالما لم يعد من الممكن الخروج منه إلا في الشعر. منذ أن ظهر شيء يدعى «المحرك» راح كل شيء يتغير في حياتنا. ظهرت الطائرات والقطارات وصار من الممكن بناء سفينة في حجم مدينة. أتساءل دائما مثل الأطفال: أي اختراع هو الأهم؟ وأجد دوما أن كل اختراع أصبح جزءا لازما من حياتنا: الهاتف والبراد والسيارة. وماذا عن المصعد الذي جعل من الممكن بناء المباني العالية؟

اخترع ميريت سنغر ماكينة الخياطة. ولكي يرغب ربات البيوت في شرائها، عرضها بالتقسيط. كان اختراع فكرة التقسيط أهم بكثير من الماكينة التي انقرضت الآن.. أرى في الصحف اللبنانية الآن إعلانات عن تقسيط الأدوات المنزلية بدءا من 12 دولارا في الشهر. جعل نظام التقسيط كل شيء ممكنا بالنسبة إلى أناس كان اقتناء كل هذه الأشياء مستحيلا أمامها.

هل المحرك أهم الاكتشافات، أم النفط؟ حتى القرن الثامن عشر كانت الطاقة الوحيدة التي عرفها الإنسان، طاقته وطاقة الحيوانات التي يستخدمها (والريح للسفن). الآن يستغل الإنسان الطاقة النووية بالإضافة إلى طاقة الريح والشمس والزراعات.

أكرر دوما أنني مدين لتوماس إديسون الذي طور (ولم يخترع كما ذكرت سابقا) الكهرباء. تخيلوا مفاعيل القدر. لقد طرد من المدرسة بعد ثلاثة أشهر على اعتبار أنه متخلف عقليا (كان أهم جزئيا)، فراحت أمه تعلمه في البيت فيما راح والده يضربه. بدأ العمل في الثانية عشرة كعامل تلغراف وجاب الولايات يصلح خطوط التلغراف. في الحادية والعشرين قرأ مذكرات مايكل فارادي عن تجاربه في الكهرباء. في الثانية والعشرين قام هو باختراع شريط للإرسال التلغرافي فهبطت عليه الثروة فيما هو يسكن في قبو أحد المنازل النيويوركية. بعدها اخترع (اللمبة) المصباح والفونوغراف وعشرات الوسائل الأخرى.

لا أتخيل أنني إكراما لصديقي أنسي الحاج سوف أتخلى عن الضوء الكهربائي وأعود إلى القنديل في القرية. أريد أن أقرأ وأن أسمع الموسيقى، وأن أتابع صحفي على الإنترنت. ولن يمنعني ذلك من التمتع بضوء القمر أو خرير المياه أو النسيم المهدهد.