إرث ساركوزي ثقيل جدا على اللبنانيين والسوريين

TT

«أنا أؤيد أوروبا متكاملة. بكلام آخر، أوروبا لها حدود.. تركيا تقع في آسيا الصغرى».

(نيكولا ساركوزي)

إذا قرر ناخبو فرنسا طي صفحة رئاسة نيكولا ساركوزي، فإن كثرة من اللبنانيين والسوريين ستشعر بأن شيئا من العدالة قد تحقق.

أكيد، الأمر يخص الناخب الفرنسي أولا وأخيرا. فأحد في الدول الديمقراطية الحقيقية لا يختار حكوماته وقادته بناء على رغبات أو تعليمات خارجية. ولكن في عالم تتداخل فيه المصالح وتتضارب على وقع الكلام المتكرر الممجوج عن حقوق الإنسان، والمحاضرات الخادعة عن الخيار الديمقراطي، والصفقات التآمرية التي تعقد في الخفاء، يحق للضحية أن يسعد لحكم عادل يصدره شعب حر.. ضد من تصرف ضد مصالحها.

«فرنسا – ساركوزي» تكلمت كثيرا وتحركت كثيرا خلال الأشهر الأخيرة إزاء «الربيع العربي» المنتكس، لكن كل كلامها وتحركاتها، لن يُنسي اللبنانيين أولا، والسوريين ثانيا، أن نيكولا ساركوزي، قبل أي زعيم آخر، عمل على إجهاض انتفاضة اللبنانيين في مارس (آذار) 2005، وأعاد تأهيل النظام السوري، الذي ربما فوجئ بأن جريمة أخرى في سلسلة جرائمه الروتينية المرتكبة في لبنان، منذ 1976، كانت «القشة التي قصمت ظهر البعير».. فلم تمر هذه المرة كما مرت سابقاتها.

كان ثمة تصور في دمشق أن النظام، المدين بوجوده أساسا لتفاهمات إقليمية تتخفى وراء العداوات اللفظية، قادر على الإفلات من عواقب أي جريمة يرتكبها ساعة يشاء؛ لأن تلك التفاهمات الإقليمية – التي باتت مكشوفة الآن – تعتبره ضمانة لاستقرار إسرائيل وتمدد إيران والإبقاء على «مسمار جحا» لروسيا في المشرق العربي.

حافظ الأسد، السياسي المحنك، أدرك أهمية الاحتماء بالتفاهمات الإقليمية، فلم يخرج عن النص، وأبقى هامش حركته تحت سقف ما يمكن التغاضي عنه... بما في ذلك تصفية غير المرغوب بهم. كذلك تمكن حافظ الأسد من الإمساك بالعصا من وسطها عبر عقود من المناورات والمزايدات الكلامية وتخوين الخصوم وبيع الخدمات إلى من هم أكبر منه... شمالا ويمينا. وهكذا خدم مصالح إسرائيل – ومن خلفها الولايات المتحدة – وإيران وروسيا في آن معا، من دون أن يعتبره أحد «حليفا موثوقا» أو «تابعا ذيليا» لأي منها.

إسرائيل، بلا شك، كانت في ظروف طبيعية تفضل «جارا» مأمونا يحمي حدودها الشمالية من دون مساومة. لكن براغماتية بعض ساستها أقنعتهم بأن لا شيء في عالم السياسة يأتي مجانا. وبالتالي، إذا كان مجرد بقاء نظام تسلطي استخباراتي وطائفي، يدجن شعبه ويدمر ثقافته ويفاقم الاحتقان الطائفي، هو الثمن الوحيد الذي تطلبه دمشق مقابل ضمانها السكينة والهدوء في الجولان المحتل... فلم لا؟

وإيران، بدورها، كانت تفضل التعجيل في فرض هيمنتها الإقليمية وصولا إلى ساحل البحر المتوسط. غير أن وجود «متعهد» كحافظ الأسد، أولا موثوق الولاء، وثانيا ذكي... يجيد التوقيت واللعب على التناقضات، ومساومة الخصوم حتى على ما يعتبره محظورات، أقنع طهران بتسليم «الأسد الأب» مسألة التقرير في المسائل التفصيلية الصغيرة طالما أنها لا تتعارض مع «الصورة الكبيرة» لـ«المشروع الخميني».

أما موسكو، فتتذكر منذ أيام الاتحاد السوفياتي الراحل زيف التزام دمشق بـ«صداقتها». فعام 1976 أدخلت القيادة السورية جيشها إلى لبنان لتصفية المقاومة الفلسطينية وقصم ظهر الحركة الوطنية اللبنانية... بضوء أخضر إسرائيلي - أميركي. والقادة الروس اليوم يعرفون الواقع السوري، غير أنهم يدعمون اليوم بلا خجل نظام بشار الأسد لأسباب أميركية... لا سورية. إنهم بكل بساطة أمام «رقعة شطرنج» يخوضون عليها حرب نفوذ يهمهم كسبها.. أو على الأقل منع الخصم من كسبها، بصرف النظر عن الأخلاقيات والمبادئ. وهم، هنا، مطمئنون إلى أنهم يقفون على أرضية لا بأس بصلابتها، إذا ما تذكرنا أن خصمهم الافتراضي أمام «رقعة الشطرنج» الشرق أوسطية... ليس إلا واشنطن، التي وقفت ضد حقوق الفلسطينيين منذ 1948، وتواطأت مع التمدد الإيراني طوال العقد الماضي.

ولكن لنعد إلى ساركوزي. إلى الرجل الذي نسف بعد جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه في 14 فبراير (شباط) 2005 أكبر فرصة سياسية وأخلاقية للتخفيف من معاناة اللبنانيين والسوريين.

لقد كان من «المفارقات» أن فرنسا، القوة المنتدبة على سوريا ولبنان بين 1920 و1943، التي طالما اعتبرها مناصرو انتدابها «الأم الحنون»، هي التي أخمدت بعد تولي ساركوزي منصب الرئاسة الغضبة الدولية على الجريمة التي فرضت على نظام بشار الأسد سحب جيشه من لبنان بعد هيمنة احتلالية طالت لثلاثة عقود.

يومذاك كان المزيج الغريب من الأسباب الشخصية كعداء ساركوزي لسلفه جاك شيراك وكل ما يمت إلى شيراك بصلة، والأسباب السياسية كعلاقته الخاصة مع اللوبي الإسرائيلي في فرنسا، أكثر من كاف لعمل ساركوزي وكبار أعوانه، وعلى رأسهم كلود غيان، بالذات، على قلب السياسة الفرنسية رأسا على عقب. وبالتالي، كسر عزلة نظام الأسد، ثم تكريمه والانفتاح عليه بصورة مثيرة للجدل والإحباط.

في تلك الفترة، كما يجب أن نتذكر، كانت إسرائيل تسوق في واشنطن والعواصم الأوروبية أكذوبة «ضرورة العمل على فصل دمشق عن طهران»، في تمويه خبيث لتسترها على تنامي الهيمنة الإيرانية على كل من العراق ولبنان، وسوريا أيضا، كمحفز بديهي ومطلوب لاستثارة ردة فعل سنية أصولية، سلفية وجهادية، لا بد أن تصب في نهاية المطاف في خانة «سيناريو» الحرب الإسلامية – الإسلامية. وهذه «الحرب» التي يحلم بها بعض المخططين الإسرائيليين، والتي يرون أنها تشكل ضمانة أكيدة لمستقبل إسرائيل على المدى البعيد، تسعى إسرائيل اليوم لأن توفر لها وقودا إضافيا رخيص الثمن عبر «تحالف أقليات» انتحاري... كذلك الذي يدعو إليه اليوم بعض القادة الدينيين والسياسيين اللبنانيين.

لقاء «أصدقاء سوريا» الثالث في باريس تنم نتائجه المتواضعة عن استمرار التآمر الدولي لإخماد ثورة الشعب السوري... وهذه حقيقة لن تستطيع مهمة كوفي أنان تغييبها. وهذا التآمر، مع الأسف، وإن كان يأتي بواجهة روسية فجة، متجهمة الوجه، كوجه وزير الخارجية سيرغي لافروف، فإن له أبعاده العربية والغربية. وفي هذا السياق لا فارق يعتد به بين ما يقوله نبيل العربي وما تحاضر به هيلاري كلينتون وما يهدد به ألان جوبيه وويليام هيغ.

أمس قرر الشعب الفرنسي أنه رأى ما فيه الكفاية من نيكولا ساركوزي، وشبع منه ومن ألاعيبه.

هذا خبر طيب للشعبين اللبناني والسوري بعد سيل من الأخبار السيئة... وآخرها ما يمكن أن تحمله من كوارث للوضع السوري زيارة البطريرك الماروني بشارة الراعي إلى الولايات المتحدة.