انقلاب بلا دماء.. ولا «شبيحة»!

TT

عند التأمل في الطريقة التي تعامل بها الزعيم حسني الزعيم الذي لقيت حركته نوعا من الرضا الشعبي، مع الرئيس شكري القوتلي، نجد أن قيادة «ثورة 23 يوليو 1952» اقتبست الطريقة نفسها، أي أن البكباشي جمال عبد الناصر ورفاقه من «الضباط الأحرار» مارسوا الأصول مع الملك فاروق، حيث إنهم لم يفعلوا ما فعله الرئيس الراحل حافظ الأسد عندما قام بما سماه «الحركة التصحيحية» التي كانت آخر الانقلابات العسكرية في سوريا، إلا إذا كنا سنفاجأ بأن الحليف الروسي لسوريا البشارية اغتنم فرصة الوضع الراهن الذي يعيشه الحكم السوري ورتب انقلابا عسكريا يقوم به عدد من الضباط الذين سبق أن أنهوا دورات في روسيا وبالذات في قطاع الاتصالات والطيران الحربي. هذا الأمر وارد وسيلقى التأييد الشعبي، وذلك على أساس أن المؤسسة العسكرية تضم السني والدرزي والعلوي والمسيحي. وهذا الخيار من شأنه أن يحفظ النظام ورأسه.

والقول بأن عبد الناصر ورفاقه تعاملوا مع الملك فاروق على الطريقة التي تعامل بها حسني الزعيم مع رئيس الشرعية شكري القوتلي، يستند إلى أن الملك غادر من دون إيذاء وأدى له الضباط قبل انتقاله إلى يخته (المحروسة) التحية العسكرية، وبذلك حافظت «ثورة 23 يوليو» على كرامة الذي كان سيد البلاد ثم لم تدم له وأصبح مقيما حتى وافته المنية في جزيرة إيطالية. أما بالنسبة إلى الرئيس شكري القوتلي فإن التعامل معه كان كالآتي: في الثانية عشرة والنصف من ظهر يوم الاثنين 27 يونيو (حزيران) 1949 كان الرئيس القوتلي في مطار دمشق ومعه زوجته وابنته وابنه وهما صغيران يلقى الوداع الرسمي من رئيس حكومة العهد الانقلابي الأول الدكتور محسن البرازي والعقيد بهيج كلاس ممثلا للرئيس حسني الزعيم. وقد أدت للقوتلي قبل صعوده إلى الطائرة التابعة للخطوط الجوية الإسكندنافية والمتجهة إلى جنيف عن طريق روما، كتيبة من الشرطة العسكرية برئاسة ضابط التحية العسكرية.

وفي الوقت نفسه كان الزعيم حسني الزعيم يركز على لبنان والعراق والسعودية في اتصالاته من أجل الاعتراف بانقلابه.

كان لبنان (بشارة الخوري ورياض الصلح) أولى الدول المعترفة بالزعيم حسني الزعيم رئيسا للبلاد بموجب استفتاء شارك فيه 730031 من أصل 816321 لهم حق الانتخاب وعبر عن الشكر للبنان بالقول «سأدافع عن استقلال لبنان كما أدافع عن استقلال سوريا، فنحن ولبنان نؤلف وحدة اقتصادية وتجمع بيننا مصالح مشتركة». وكانت مصر الملك فاروق متفهمة بدليل قول حسني الزعيم «علاقتي بمصر وجلالة الملك فاروق على خير ما يرام منذ الساعة الأولى، فقد سلكت مصر وجلالة ملكها نحوي مسلكا نبيلا ولا يسعني إزاءه إلا أن أعلن شكري على رؤوس الأشهاد». وأما بالنسبة إلى السعودية فإن الموقف الذي اتخذته يتضح من خلال قول حسني الزعيم: «كان صنيع الملك عبد العزيز آل سعود معي صنيع الأبطال ولن أنسى قط ما قطعه على نفسه من عهود». وبالنسبة إلى العراق فإن بذرة التوتر الذي بلغ الذروة في عهد الرئيس (الراحل) حافظ الأسد في مواجهة الرئيس (الراحل) صدام حسين كانت إذا جاز القول بدأت النمو في عهد الحكم الملكي بقطبيه العنيدين الوصي على العرش عبد الإله ورئيس الحكومة نوري السعيد. ومن خلال كلام قاله الزعيم يتبين لنا سبب التوتر. فهو ردا على سؤال من صحيفة سويسرية أجاب: «بمجرد أن توليت مقاليد الأمور قدم إليّ نوري السعيد يهنئني، ولا شك أنه كان يظن أنه سيظفر مني بالموافقة على ضم سوريا إلى العراق في ظل العرش الذي يتولى الوصاية عليه الأمير عبد الإله، ولكني أعارض وسأظل أعارض في قيام سوريا الكبرى. ولقد ظن نوري باشا أيضا أنه يخيفني بحشد قوات عراقية على الحدود السورية لكنه اضطر إلى سحبها آخر الأمر. وإذا أراد أيضا أن يخيفني فهو يعلم أنني أعرف كيف أتحداه. ويجب ألا ينسى أن قلوب العراقيين شعبا وجيشا هي مع سوريا وليست معه..».

لم تستقر الأمور كما يجب. فالصحافة العراقية تهاجم الانقلاب. وهو من جانبه يعلن على الملأ مناهضته وبقوة لأي حركة شيوعية في البلاد، ولذا كان الحذر شديدا من جانب الكرملين معه يقابله ود مع الإدارة الأميركية والحكومتين في كل من بريطانيا وفرنسا.

وعلى وقع إطراءات لحركته الانقلابية في الصحف، وفي إحداها القول «إن حسني الزعيم أنشأ في خلال ثلاثة أشهر دولة وضع ميثاقها بكلمات موجزة هي المجد والطموح والجيش والنظام»، ومن على منابر المساجد، وقول أحد الشيوخ في خطبة أول جمعة (8 يوليو/ تموز 1949) حضرها حسني الزعيم، إن «حركة الانقلاب التي قام بها فخامة الرئيس غمرت الكهول بالحماسة والتوثب، فكيف بالشباب؟! لقد قضى الزعيم المحبوب على الميوعة والتخنث وأعاد عهد الرجولة وسيعيد تاريخ البطولة، وإن كثيرا من البلدان العربية تتمنى أن تكون لها مثل نعمة الانقلاب التي ظفرنا بها. إن فخامة حسني الزعيم أصبح مهوى قلوب الشعب السوري، فهو الذي قهر عدونا في فلسطين وسيكون له مع هذا العدو موقف أعظم وأكبر وسيعيد رواء الإمبراطورية العربية. لقد كان داهية الألمان بسمارك يقول: أعطوني مائة ألف مقاتل مسلم وأنا أقاتل العالم وأغلبه، وفخامة الزعيم يريد أن يعيد مجد العرب الأول في فجر الإسلام بهؤلاء المؤمنين..»..

من دون أن يخطط لها حدثت كبوة في مسيرة الانقلاب العسكري الأول في سوريا والذي بعد سلسلة انقلابات حدثت، وكان آخرها كما ذكرنا الانقلاب الذي قاده الفريق حافظ الأسد، هو الوحيد الذي كان التعامل فيه مع المنقلبين كثير الرقي واحترام المكانة، وتحقق، وهذا هو الأهم، من دون نقطة دم واحدة أريقت ومن دون قناصة يصطادون المتظاهرين كما هو الحال مع الحكم الذي يقوده الرئيس بشار، ومن دون «شبيحة» وصمت عهد الرئيس أبو حافظ بأبشع النعوت.. وتتلخص الكبوة في أن زعيم السوريين (حسني) سلم لبنان زعيم القوميين السوريين (أنطون سعادة) الذي كان استطاع اجتياز الحدود إلى الأراضي السورية بعد أحداث خطيرة تضمنت مهاجمة المخافر والاستيلاء على أسلحة الجنود. وأما طرفاها، فهما الدولة اللبنانية برئيسيها (بشارة الخوري الماروني ورياض الصلح السني) والحزب القومي السوري. وبعد القبض على أنطون سعادة وتسليمه إلى السلطات اللبنانية حوكم الأخير أمام محكمة عسكرية قضت بالأكثرية وليس بالإجماع (كما كان يريد الرئيسان الخوري والصلح) بإعدامه رميا بالرصاص.. وتحولت رباطة جأش أنطون سعادة وابتسامته للجلاد ورفضه أن يموت راكعا (هذا ما حصل تماما مع الرئيس صدام حسين الذي لقي المصير نفسه شنقا) إلى أسطورة دفع ثمنها حسني الزعيم الذي نشرت الصحف السورية يوم الخميس 11 أغسطس (آب) 1949 أنباء حول مشروعه للتغيير مفادها أن الحكومة ستنشر الدستور الجديد وتضعه برسم المناقشة قبل الاستفتاء عليه من قبل الشعب مقدمة للتصديق عليه ثم الدعوة إلى انتخابات نيابية تسفر عن برلمان جديد يمكن اجتماعه في سبتمبر (أيلول) 1949، كما أن الرئيس حسني الزعيم سيدلي قريبا ببيان شامل يوضح فيه للشعب السوري أمورا لم تعرف بعد عن الأسباب التي أهابت به للقيام بانقلاب عسكري.

لكن لا الدستور نشر ولا البيان أذيع ولا «الجندي الشجاع» الذي كان قال في أول مقابلة صحافية معه «لا بد من جامعة عربية تزيل سوء التفاهم الذي يفرق بين أعضائها، وإذا لم تنشأ هذه الجامعة فإنني سأتجه إلى عقد حلف مع مصر والمملكة العربية السعودية ولبنان»، بقي على قيد الحياة، ذلك أنه في اليوم نفسه (الخميس 11 أغسطس 1949) صدر بلاغ رقم واحد آخر يحمل توقيع الزعيم سامي الحناوي الذي كان أحد أقرب العسكريين إلى حسني الزعيم. ولم يكتف الحناوي بقلب حسني الزعيم وإنما حاكمه على نحو المحاكمة اللبنانية العسكرية والسريعة التي قضت بإعدام أنطون سعادة. كما أن نوعية الإعدام كانت مثلها أيضا: رميا بالرصاص للزعيم حسني الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرازي. وهنا دخلت سوريا مرحلة الانقلابات المتلاحقة والتصفيات على أنواعها.

وللظاهرة تداعيات.. هذه هي سوريا من عصر التعقل في الحكم إلى عصر التوريث والعناد وعدم التفهم.