ليبيا وخيارات مراجعة عقود وامتيازات النفط

TT

قامت الحكومة الانتقالية في ليبيا بتشكيل لجنة لمراجعة عقود وامتيازات النفط الحالية. وقبل الإطاحة بنظام القذافي، كانت ليبيا تنتج 1.6 مليون برميل من النفط يوميا، منها 1.1 مليون برميل تنتجها المؤسسة الوطنية للنفط، والباقي تنتجه شركات النفط الأجنبية، وكان أكبرها في حجم الإنتاج الشركة الإيطالية «إي إن آي»، أما الشركات الأجنبية الأخرى فتضمنت شركات «توتال» و«كونوكو فيليبس» و«ماراثون» و«هيس» و«أوكسيدنتال»، كما كانت شركتا «بريتيش بتروليوم» (بي بي) و«شل» قد تعهدتا بإقامة مشروعات ضخمة للتنقيب عن النفط هناك.

وتمتد القائمة الطويلة للشركات الأجنبية التي حصلت على تراخيص بالتنقيب عن النفط في ليبيا لتشمل شركات «بريتيش غاز» و«شيفرون» و«الشركة الصينية الوطنية للبترول» و«إيكسون موبيل» و«غازبروم» و«بيترو كندا» و«نيبون أويل»، و«أو إم في»، و«أويل إنديا» و«أو إن جي سي» و«بيرتامينا» و«بيترو براس» و«ريبسول» و«آر دبليو إي» و«سوناتراك» و«تاتنيفت» و«وود سايد» وغيرها.

وهذه الخطوة تطرح مجموعة من علامات الاستفهام، مثل: ما هي أهداف ليبيا من مراجعة العقود والامتيازات النفطية؟ هل ستعمل الحكومة الجديدة على مكافأة الشركات التي وقفت حكوماتها إلى جانب الثورة (أو معاقبة الشركات التي لم تقف حكوماتها إلى جانبها)؟ هل ستسعى الحكومة الجديدة إلى إلغاء العقود التي تضمنت حالات فساد؟ هل ستحاول الحكومة الجديدة التوصل إلى شروط مرضية بصورة أكبر؟

لعل الهدف الأكثر منطقية بالنسبة للحكومة الجديدة سيكون العمل على زيادة الإنتاج، على الأقل من أجل الوصول به إلى المستويات التي كان عليها قبل الحرب، أو ربما أعلى. وطبقا لمستوى الإنتاج السابق للثورة، الذي كان يبلغ 1.6 مليون برميل يوميا، كانت سنوات احتياطي النفط الخاصة بها (أي نسبة الاحتياطيات إلى الإنتاج) تبلغ 79 سنة، وفقا للمتوسط المعتمد لدى «منظمة الدول المصدرة للبترول» (أوبك). أما في ظل مستويات الإنتاج الحالية، التي تبلغ 1.2 مليون برميل يوميا، أصبحت سنوات احتياطي النفط لدى ليبيا تبلغ 107 سنوات، وهو أعلى بكثير من المتوسط الخاص بمنظمة «أوبك»، ومؤشر على إمكانية زيادة الإنتاج بصورة كبيرة. أما لو أرادت ليبيا زيادة إنتاجها إلى 3 ملايين برميل يوميا، فسوف يكون أمام احتياطي النفط بها 43 سنة قبل أن ينفد، وهو أقل من متوسط منظمة «أوبك» لكنه أعلى من دول الجزائر وأنغولا والإكوادور، الأعضاء في منظمة «أوبك».

وهناك شرطان أساسيان من أجل استقرار قطاع النفط في ليبيا وسيره بشكل سليم، وهما عنصرا الأمن ووجود نظام حكم شرعي يتسم بالاستقرار والشفافية ويمكن التنبؤ به. وتعتبر العراق مثالا جيدا يبين أثر غياب هذين المتطلبين الرئيسيين على إنتاج النفط، فقد استغرق الأمر من العراق عقدا كاملا تقريبا كي تستعيد مستويات الإنتاج التي كانت موجودة قبل الحرب، والتي بلغت 3 ملايين برميل يوميا. وأسهم غياب الأمن جراء التمرد والاضطرابات إسهاما كبيرا دون شك في ذلك البطء في تعافي الإنتاج، علاوة على المشكلات التي أحاطت بنظام الحكم الشرعي. وفي سنة 2009، قوبلت أول دفعة من الامتيازات التي أعلنت عنها العراق بالصمت من شركات النفط، حين قامت العراق بتغيير شروط الامتيازات التي تقدمها من اقتسام الإنتاج كما هو معتاد إلى دفع رسوم لتوفير الترتيبات والاستعدادات المتعلقة بالخدمات. ولكن في النهاية، مع الدفعتين الثانية والثالثة، قبلت الشركات تلك الشروط، وأصبحت معظم الشركات الدولية الكبرى اليوم تعمل في العراق. كذلك يعاني نظام الحكم الشرعي في العراق حالة من عدم الثقة نتيجة انقسام السلطة بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان الذي يتمتع باستقلال جزئي، حيث دأبت حكومة إقليم كردستان على منح امتيازات مشاركة في الإنتاج أكثر جاذبية بالنسبة لشركات النفط، غير أن عمالقة النفط غير متأكدين بشأن قبول تلك الامتيازات التي تطعن الحكومة المركزية في مدى صلاحيتها والتي قد تؤدي إلى استبعاد تلك الشركات من الامتيازات التي تمنحها الحكومة المركزية. ومن يشارك في امتيازات النفط الكردية هي الشركات المستقلة التي لديها قدرة أكبر على تحمل المخاطر العالية، مثل شركة «هيرتيدج أويل» المدرجة في بورصة لندن. كذلك، تعاني العراق مشكلة دائمة مع الفساد.

ومن حسن حظ ليبيا بعد الحرب أنها تتمتع بأوضاع أمنية أفضل بكثير من الأوضاع الأمنية التي شهدتها العراق بعد الحرب، فبصرف النظر عن النزاعات الطفيفة والمحلية، تمكنت ليبيا من تجنب التمرد والاضطراب الأمني واسع النطاق الذي طغى على العراق بعد الحرب. وهذه البيئة الأمنية المواتية ساعدت ليبيا دون شك على استئناف الإنتاج سريعا بعد انتهاء الحرب. وبالتالي فإن وجود نظام حكم شرعي يتسم بالاستقرار والشفافية ويمكن التنبؤ به - تمثل فيه المراجعة الوشيكة للعقود والامتيازات النفطية جزءا أساسيا - هو الشرط الأساسي الآخر من أجل نجاح القطاع النفطي هناك.

وفي ظل الأخطاء الكثيرة التي ارتكبها نظام القذافي، لا يمكن اتهامه بالتفاوض على عقود نفطية غير مرضية بالنسبة له، حيث تتمتع ليبيا بنصيب من الإنتاج يبلغ 93 في المائة من عقود النفط التي تبرمها مع الشركات الأجنبية، وهي من أعلى النسب، إن لم تكن الأعلى، في العالم، مقابل 20 - 60 في المائة في نيجيريا (التي تتركز فيها عمليات التنقيب في البحر)، و57 - 62 في المائة في البرازيل، و70 في المائة في كل من روسيا وكازاخستان. ومن ثم، فإن الحكومة الجديدة ليست في حاجة إلى تحسين الشروط الخاصة بعقود النفط القائمة، بل وربما يكون في مقدور الحكومة الجديدة تقديم شروط أفضل لشركات النفط، من أجل تشجيع المزيد من عمليات الاستكشاف والتطوير وزيادة الإنتاج. ورغم أن الحكومة الجديدة أعلنت أنها ستعطي مساحة أكبر من الاستقلالية لإقليم بنغازي، فإن عليها أن تتنبه جيدا إلى ضرورة أن تتحاشى ظهور مشكلات قانونية بين الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم كما هو سائد في العراق.

والفرضية الأنجح هي أن تتحلى الحكومة الليبية الجديدة بالتعقل وأن تتخذ الخطوات الضرورية لتوفير الشروط الأساسية اللازمة من أجل الاستمرار في زيادة إنتاج النفط وتطوير القطاع النفطي في البلاد. وسوف تدرك الحكومة الجديدة من السوابق الكثيرة أن هذا القطاع يستجيب للمحفزات بصورة أفضل مما يستجيب للتهديدات. فقط عليها أن تنظر إلى الأزمة الأخيرة التي أحاطت بعملية إعادة تأميم شركة النفط الأرجنتينية «واي بي إف» كمثال على ذلك.

* شريك له حق الإدارة في شركة «إيميرجنغ غروث إنفستمنت بارتنرز»، وهي شركة استثمارية واستشارية للأسهم الخاصة في الأسواق الناشئة في حي المال بلندن.