سمير عطا الله.. وغواية تويتر

TT

حتى الكاتب المخضرم، وأحد رموز الزمن الصحافي الجميل، الأستاذ سمير عطا الله، أدلى بدلوه في «همروجة» «تويتر».

في مقاله، الجمعة الماضية، أعلن عطا الله، من منبره هنا في هذه الجريدة، أنه: لا للـ«تويتر». حسب عنوان عموده، فأوجز وأبلغ. على طريقة أهل «تويتر» في الكلمات البرقية، التي كثيرا ما تكون من البرق «الخلب» الذي لا يتبعه مطر، وليس في سحابه قطر، إلا ما ندر.

تعليق الأستاذ سمير عطا الله كان على الكاتب السعودي المعروف زياد الدريس، وهو سفير السعودية لدى منظمة اليونيسكو للثقافة والعلوم، وعلى خلاف ما توحي به أجواء هذه المنظمة من أجواء محاضرات وبحوث وفنون متنوعة وجادة، فإن الأستاذ زياد كان متفائلا بحلول عصر «تويتر»، وحسب ما اقتبس منه عطا الله، فإن الدريس كتب: «يرحب بعصر الـ(تويتر). وقال إنه يحب الاختصار في الكتابة ويكره الاستطراد، وها هو الـ(تويتر) يطبق الحكمة القديمة (ما قل ودل)».

ويعقب عطا الله بكل ذكاء وتهذيب: «عندما أقرأ زياد الدريس أتمنى أن يسهب قليلا. فالاختصار ليس مبدأ ولا قاعدة. وكما يقال (ما قل ودل)، يقال أيضا (لكل مقام مقال)».

والحق أن عطا الله ليس الوحيد الذي حوصر من قبل كتائب «تويتر»، ونعي إليه قلمه بل وطريقة كتابته، وعدد كلماته، وكل ما يمت بصلة إلى فنون القول السابقة لعصر شبكات التواصل الاجتماعي، من «فيس بوك» إلى «تويتر»، والمقبل في الطريق لا ندري ما هو.

كأن هناك حالة من التربص لدفن كل كتابة تنشد إلى شروط الكتابة الكلاسيكية، بل وحي الكتابة الصحافية التي كانت إلى وقت قريب محل ترفع من قبل أساطين اللغة والأدب العربي وعيروا هذه اللغة بـ«لغة الجرائد».

ليس الغريب في هجاء الشباب الجديد الذين وجدوا في «تويتر» فرصة للكتابة بلا قيد أو شرط أو حتى التزام بمعايير التثبت بل ولا حتى بجماليات اللغة، باعتبار الصحافة، والكتابة العامة بشكل أشمل، هي زخرفة لغوية، وتشكيل جمالي، على ضفاف الرأي والمعلومة، أي إن أي كتابة موجهة للعموم، تنطوي على وظيفة جمالية بموازاة الوظيفة العملية، وإلا لم يكن هناك ثمة داع لوجود مصححين لغويين ومحررين يدققون الأسلوب، في كل نشرات الأخبار والبرامج المحترمة في جميع تلفزيونات العالم، ولم يكن ثمة فرق بين من يهرف ومن يعرف ومن يزخرف ما يعرف!

الغريب ليس هجاء الشباب من غير أبناء الصحافة وصنعة الأدب لكل أشكال الصحافة التقليدية (التقليدية هنا بمعنى الوصف وليس الذم، مثل الصحافة والتلفزيون والإذاعات). الغريب هو في مشاركة من أنتجتهم الصحافة التقليدية وعملوا بها، وأسهموا فيها، وصنعت جانبا من شهرتهم، والأغرب أنهم يهجون الصحافة في مقالاتهم الصحافية!

هناك حالة من الانبهار الذي يغشي الأبصار، اعترت القوم.

«تويتر» مثل «فيس بوك»، مثل الصحافة الورقية، مثل شاشة التلفزيون، مثل سماعة المذياع، مجرد «وسائط»، لا تحمل قيمة عليا بذاتها، قيمتها في ما يقال أو يكتب فيها.

الوسيلة ليست مدعاة للذم أو للمدح، الوسيلة وسيلة!

كما أن الاختصار إلى 140 حرفا، الذي هو شرط التغريدة الواحدة في «تويتر»، ليس مفخرة المفاخر، ولا دليلا على البلاغة والدقة بكل حال.

وقد جاءت في التراث العربي تعريفات متعددة لفن الإيجاز في علم البلاغة العربية، ومتى يكون الإيجاز محل ثناء، ومتى لا يكون كذلك، لكن من أوضح الحدود الواضحة للإيجاز البلاغي الممدوح، هو ما ذكره أبو الفتح ابن جني، وهو من علماء اللغة والنحو والأدب (توفي 392 هجري)، عن شرط الإيجاز الممدوح وهو:

«إصابة عين المعنى بالكلام الموجز».

وهو شرط كما نرى عسير المنال، ولذلك صار فن الإيجاز في البلاغة، من أصعب الفنون وأدق المهارات، بل قلت المواهب التي يمكن أن يحظى بها أحد ينطق العربية كما يحسن ببهاء أساليبها، وسحر ووقع صورها وثراء معجمها.

فالاختصار، الذي هو سبب، أو السبب الرئيسي، لمديح القوم لـ«تويتر»، بالنظر إلى إسهاب الصحافة أو التلفزات، ليس هو أيضا مقبولا بإطلاقه، بل ويعسر القول إن الكثير يجيدون فن الاختصار والإيجاز.

الحق أننا نعيش زمنا سريعا في كل شيء سريع وقليل صبر، والفن الجميل لا يتأتى إلا بأناة وصبر، مثلما تأخذ اللوحة الرائعة وقتها أو السجاد العجمي شهورا، أو الكتاب الجاد والمفيد مثل ذلك أو أقل أو أكثر.

لا بأس في أن يكون لـ«توتير» موقعه ودوره، وليس الغرض إلغاء أي دور ومساحة له، ولكن من الخطأ بل والتهور، السعي في تهميش أو شطب كل منابر وفنون القول والإبداع الأخرى. ويصبح هذا الخطأ مضاعفا حينما يكون ممن يفترض بهم إثراء المحتوى العربي الجاد، وأغلب المحتوى الجاد هو فنون القول المطولة (بحث، رواية، موسوعة، سير، مسرح، سيناريو.. إلخ).

لا تدري حقيقة سر هذه الهرولة خلف موقع ما، وإضفاء أدوار مضخمة إليه، فقط لأنه بلا ضوابط ولا حدود، ولأنه مختصر بحدود 140 حرفا، مع أن البعض حوّل مقالاته أو محاضراته إلى مقطوعات إلى دفعات من 140 حرفا، و«كأنك يابو زيد ما غزيت»!

يبدو لي أن سر الإغراء الرئيسي بالنسبة لموقع «تويتر» هو الاحتشاد الذي فيه، وكثرة البشر، وبالتالي ضمان «تسويق» المعروض على أكثر عدد ممكن من الناس، بصرف النظر عن طبيعة المعروض، من السلع التجارية إلى الدعاة والكتاب واللاعبين.. كلٌ يريد تسويق ما لديه هناك، فالسوق كبيرة، خصوصا في ظل حالة التسيس الكبير التي تعتري العالم العربي، هذه السنة، والرغبة في تسويق اتجاهات سياسية معينة بين الجماهير.

هل هي موضة وتنتهي صرعتها أو تخف؟ الأكيد أنها ستخف بحلول صيغة أخرى للتواصل أكثر إغراء، مثلما خف وهج «فيس بوك» من قبل.

القراءة الجادة، التي هي شرط رئيسي من شروط تكوّن الوعي والاستقلال النقدي الجاد، تنحسر وتضمر بسبب «وهم» المعرفة الذي تمنحه مواقع مثل «تويتر»، أين يجد من «يدمن» هذا الموقع الوقت لقراءة كتاب جاد، بل حتى كتاب ممتع، بل حتى قراءة صحيفة قراءة متأنية، بل حتى متابعة مادة تلفزيونية جادة حتى آخرها؟!

كان مؤثرا ما نشرته صحيفة «الأهرام» المصرية، عدد الجمعة الماضية، في مقابلة مع الروائي المصري المعروف بهاء طاهر، أحد رموز الأدب المصري الأحياء، حيث قال بلغة حزينة: «كل إنسان ما زال يقرأ حتى الآن يستحق جائزة، لأن التعليم لا يشجع على القراءة ولا الإعلام، ولا الأجهزة الثقافية أيضا تشجع على القراءة. ومن يقرأ حتى الآن فى هذا المناخ يستحق جائزة! وأنا مؤمن بأن الكتابة ما زالت قادرة على التغيير رغم كل شيء».

من هنا، فنحن أحوج ما نكون الآن إلى تشجيع القراءة والإكثار منها، وتشجيع الإقلال من الثرثرة أو تزجية الوقت والساعات في «قيل وقال وكثرة السؤال» على «تويتر» أو غيره.

أول من ينتظر منهم مضاعفة الجهود من أجل تحفيز القراءة، هم الممسكون بكل جهاز أو مسؤولية تتصل بالشأن الثقافي والتربوي والتعليمي.

أكاد أسمع تنهيدة الأستاذ سمير عطا الله وهو يقول في خاتمة مقاله المشار إليه في فاتحة المقال: «سوف نكتشف، مهما تأخر ذلك، أن الـ(تويتر) وسيلة عابرة للتواصل بين الناس، وأنه مهما اتسع نطاقها فليس لها على الإطلاق تأثير الصحافة أو الكتاب أو التلفزيون. ربما نفعت بعض السياسيين أو الخاصة الذين لديهم رسائل يبعثون بها إلى مجتمع محدود (مهما بلغ عدد أفراده)، لكنها سوف تبقى مجرد تغريدة في فضاء فسيح ومفتوح، لا ضوابط له ولا قواعد ولا حتى من يحدد مستوياته الأدبية وأحكامه الأخلاقية».

أردد مع الكاتب الذي أصر على تشبثه بفنون القول الرفيع والجاد:

صحيح أننا لم نعد في زمن المعلقات، لكن اللهم أبعد عنا زمن الثواني.

[email protected]