من يفتي للمفتي؟!

TT

زيارة مفتي الجمهورية المصرية الدكتور علي جمعة لمدينة القدس أثارت ردود فعل واسعة داخل مصر وخارجها، ولا يعنيني الآن تفاصيل الزيارة أو مسبباتها، ما يعنيني أكثر من غيره الحديث عن الزيارة من منظور شرعي، فالبعض حرمها (شرعا) والبعض أباحها (شرعا)، ولا داعي لأن آتي بالأسماء والأمثلة فهي متوفرة على الشبكة العنكبوتية بغزارة، وأمطرتنا الاجتهادات المختلفة قياسا بأحداث من الماضي بأمثلة كل واحد منها له حجية إما قريبة وإما بعيدة عن المنطق.

في المنظور الأوسع يتناول قسم كبير ممن وصل إلى السلطة أو من هو في طريقه إليها في بلاد «الربيع العربي» الحديث عن «تطبيق الشريعة»، وكان هذا الشعار متداولا عندما كانت هذه القوى السياسية في المعارضة أو في السجون أو على شاشات التلفزة، يتوسل البعض بهذا الشعار صادقا دون تفصيل والبعض الآخر من أجل تكثيف الأنصار وربح المحازبين، بل إن البعض في حجرات التمثيل الشعبي (البرلمانات العربية) قد توجه إلى ذلك الشعار محاولا تطبيقه عن طريق تضمين النصوص الدستورية أو القانونية شرط التوافق مع «الشريعة». إلا أن السؤال الأهم: عن «أي اجتهاد للشريعة» يتحدث المتحدثون، وكل له تفسيره واجتهاده، خاصة بعيدا عن العبادات للدخول إلى المعاملات؟! فعلى سبيل المثال، يرى البعض في مصر أن قتلى كرة القدم في بورسعيد «شهداء» والبعض الآخر يرى أنهم «مجرد قتلى»، حيث توفوا في مكان لـ«الترفيه» وليس في ساحة للوغى! فعلى أي فتوى نستند؟! كما احتدم النقاش في أمر الشريعة في كل من تونس ومصر، وهو محتدم في أماكن كثيرة من أرضنا العربية بسبب كتابة الدساتير الجديدة والسباق على الانتخابات وكراسي السلطة، كل يدعي وصلا بالشريعة، دون تحديد لما تعني لديه، اعتمادا على عاطفة منتشرة بين الناس.

البعض يتخوف من إعلاء هذا الشعار فوق شعارات مختلفة، لأنه شعار مطلق يمكن أن يعيد إنتاج القهر، فبعد أن كان قهرا تحت طائلة القانون في مظلة «الممنوع»، يصبح قهرا شرعيا في مظلة «المحرم»، ويتجاوز القضايا العامة إلى الشخصية، فتتعرض كلمة «الحرية» التي توافق عليها الجميع إبان ثورات الربيع كمطلب أساسي، إلى تقييد من نوع آخر أشد صرامة وأضيق حدودا.

الأصل في التكليف الشرعي هو الإباحة، والفرع هو المنع، بينما ما يظهر من اجتهادات هو ترجيح الفرع على الأصل. لقد أصبح من نافلة القول أن المجتمعات والأفراد لا تتقدم إلا بالحرية، وحاجة الأفراد إلى الحرية أصبحت في عصرنا كحاجتهم إلى الماء والهواء، كما أن التنوع سنة من سنن الحياة الراسخة، فلا يجوز ولا يمكن وضع الناس، كل الناس، في بوتقة واحدة. كما أن القاعدة الثانية في تراثنا هي أن الوسيلة جزء من الغاية، على عكس الميكيافيللية القائلة إن الغاية تبرر الوسيلة! إذا أخذنا بالاعتبارين السابقين، فإن الاجتهاد مباح أبوابه مفتوحة، ولكن السؤال هنا: من يجتهد؟ وما هي مواصفاته؟ إذا كان مرة أخرى اجتهد المفتي، فقال بعضهم إن اجتهاده «محرم»، فأي معضلة نحن بصددها؟!

من هنا، فإن الأسئلة المركزية التي تطرح على الجميع في مجتمعات ربيع العرب وخارجها: هل «الإسلام» صفة لبعض الناس دون غيرهم يلصقون بها شعاراتهم وتنزع عن آخرين؟! أوليس طبيعيا أن يقال: إذا كنتم «مسلمين» فمن أكون أنا إن لم أكن في حزبكم؟! وكيف يستحوذ أشخاص على دين بأكمله ليصبح فضاء خاصا للبعض دون بينة؟! هل الإسلاميون السياسيون هم كل الشعب أم هم جزء من الشعب؟! وماذا لو اختلفت اجتهاداتهم فيما بينهم، كما هو حاصل الآن في مصر وتونس وربما في أماكن أخرى، نتيجة الفتاوى المختلفة والمتناقضة التي تتعلق بالسياسة؟! من هم على حق ومن هم على باطل؟!

من الواضح لكل عقل سليم أنه بوفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) انتهى عهد الرسالة وبدأ عصر المسلمين، وهو عهد قد يقترب من التطبيق الإسلامي وقد يبتعد عنه، وفي كل الأحوال لا يحمل أي ناطق به ختم القداسة أو المعصومية، مما يبيح معه المناقشة والاختلاف والاجتهاد، كما أن التوافق قد تم مبكرا على أن هناك اجتهادات مختلفة في الفتوى في الشؤون العامة، كما أن هناك توافقا - بعد تجارب تاريخية مضنية - على أن جمع الرئاسة في الدين والدنيا معا، يأخذنا إلى طريق العصمة للمخلوق، كما أنها نكوص عن مطالبة الناس بالحرية التي لها آليات معروفة أجمعت عليها تجارب البشرية جمعاء.

جدلية العلاقة بين «العقل والنص» ليست جديدة في الفكر الإسلامي، وقد كتبت فيها المؤلفات الضخمة ونوقشت باستفاضة واختلفت فيها الآراء بين مشرق ومغرب، كما أنه لا شك أن المناقشة بين النص والعقل وجدلية التطبيق «الشرعي» المخفف والمكثف ليست جديدة، ولكنها في تقديري منذ الشيخ محمد عبده وتلاميذه في بداية القرن الماضي لم تستوف الطريق إلى النضج، بسبب ظروف ومتغيرات جاءت على الحكم والسلطة منذ سقوط الخلافة بعد الحرب العالمية الثانية حتى يومنا، كما أنها وقعت مؤخرا في نظام «قولبة» للنصوص والاجتهادات قصيرة النظر ذات أهداف سياسية مؤقتة ومنزوعة من السياق الزماني والمكاني، الخلاف هو سياسة الدنيا لا الإيمان بالله سبحانه.

لقد وصلنا إلى هذه النتيجة من المفاهيم الانتقائية الموظفة للهدف السياسي في شعار «تطبيق الشريعة» بسبب معادلة «القمع والغلو» التي استمرت لعقود في بلادنا، لقد تم قمع الرأي الآخر منذ فترة طويلة، فأعاد الآخر ذلك القمع اجتهادا في الغلو والتشدد، فالعقل المقموع ينزع إلى مفاهيم اجتهادية انتقائية يتوخى فيها انحسار النص لصالح الاستفادة السياسية، ومثل هذا التوجه وإن ظهر على السطح فإن مصيره العزلة في نهاية المطاف حتى لو وقع على عقل جمعي بسيط وعاطفي صدقه، إلا أن هذا الانحسار يحتاج إلى شجاعة أدبية تناقش المطروح ولا تستسلم له خوفا أو رجاء.

للعقلاء في جماعات الإسلام السياسي يبدو المأزق واضحا، فهم أولا لا يستطيعون أن يواجهوا الفتاوى التي يصدرها الجهلاء والتي تظهر من نفس الجراب المستندين عليه، وهم بعد ذلك لا يستطيعون تخطيط الشؤون العامة على حسب اعتقادهم المتصلب، فالشؤون العامة أصبح لها آلية تقريبا كونية، منها إنشاء الأحزاب وبسط صناديق الانتخاب بشكل دوري، واستئناس القوانين الحديثة المتوافقة مع حاجات الناس، وترقية حقوق الإنسان، إلى آخر المنظومة المعروفة، فالتقسيم اليوم بين الناس ليس بين ملحدين ومؤمنين كما كان في الأيام الخوالي، التقسيم اليوم بين منتجين ومتسلقين!

لقد اقتربنا إلى مواجهة الحقائق على الأرض، أي تنمية وأي تعليم وأي خدمات يراد تقديمها للمواطن؟ فالكل مسلمون ومؤمنون. دون استخدام العلم والمعرفة والبعد عن الخرافة وتفسير القصور المادي بشكل من أشكال القصور المعنوي سنظل في نفس مستنقع القمع. لقد اقترب الحساب، وهو حساب يختلف عن حساب السجون والمنافي إلى حساب الكراسي والسلطة!

آخر الكلام:

للإخوة السودانيين تعبير لافت هو «الكنكشة»، وهو داء يعني التعلق بالسلطة بشكل مرضي، فيقال مثلا «فلان كنكش»، ويبدو أن هذا الداء هو السائد الآن في بلاد السودان، فمن أجل التعلق بالسلطة تراق الدماء وترقص الجماهير وتفقر!