مصر وسياسة التشطيب!

TT

لعل من التحديات اللفظية التي استجدت على الساحة المصرية مؤخرا بعد ثورة 25 يناير، هو كيف يستفتح المرء صباحه ويبدأ يومه من دون أن يحمل تبعة ما يقول ما لا يطيق، فالناس اليوم بلغوا حدا كبيرا من القلق والتوتر بحيث حولوا كيفية مبادرة الرجل بالسلام أو «الصباح» على زميله إلى سيل من النكات مليء بالإسقاطات والتلميحات السياسية، فإذا قال: صباح الحرية، فرحا بالثورة والتغيير الذي أصاب البلاد فسينظر إليه بريبة وشك على أنه منتمٍ للإخوان المسلمين، وأنه يهمز ويلمز إلى حزب الحرية والعدالة، ولو قال: صباح النور، فهو قطعا من أنصار التيار السلفي، وهو يلمز ويهمز إلى حزب النور السلفي، ولو امتعض وقرر استخدام العبارة القديمة التي كانت سائدة في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي قبل الانقلاب العسكري، الذي جاء بحكم الضباط في 1952، وهي «سعيدة مبارك»، لتأكد للمستمع أنه (حتما وأكيد) من بقايا الفلول أنصار حسني مبارك والحزب الوطني الديمقراطي ورموزه.

اليوم في مصر هناك حالة من الإحباط أصابت شريحة الثوار بشكل أساسي؛ بأن الثورة سرقت منهم وأن ما يحدث اليوم باسم «ثورتهم» لا علاقة له بمبادئها ولا أهدافها التي أعلنوا عنها في ميدان التحرير خلال الثمانية عشر يوما التي شهدت ولادة الثورة، وبالتالي لهم تحفظات كبيرة على ما يتم كتابته والتنظير له في وسائل الإعلام المختلفة باسم الثورة وأهدافها، ويسخر أحد شباب الثورة في واحدة من مدوناته على شبكة الإنترنت، ويقول: ما يُطرح باسمنا في وسائل الإعلام اليوم شبيه بأقسام التأليف الروائي؛ فهناك الخيال وهناك الخيال العلمي، ومن الواضح أن هناك قسما جديدا، وهو الخيال العلمي علمك! لأن الخيال فيه يختلط بالكذب فيقدمان للقارئ خلطة مرعبة من الأحداث والوقائع والأشخاص باسم حدث جلل لأجل مصالح وأهداف مريبة. ويستشهد الكاتب الشاب بشكل مباشر بما فعله داعية ديني وتصديه للمشهد السياسي التالي للثورة، والبدء في لعب دور «البطل»، والإدلاء بشهادة على الثورة في أكثر من فضائية، بينما مواقفه قبل أيام قليلة جدا من انطلاق الثورة كانت ضد الخروج والثورة على نظام مبارك.

وهذه مواقف موثقة ومعروفة للمصريين أنفسهم، وما ينطبق على موقف هذا الداعية «الخاطف» للثورة المصرية ينطبق على غيره، وبهذا يفتح الباب الأكبر لإشكالية الموقف السياسي في مصر بعد الثورة، وهو أن المشكلة تكمن في التشطيب أو الـ«Finishing». إننا اليوم أمام مشهد جميل بدأ كذلك في ميدان التحرير؛ شعارات مثالية ومطالب رائعة وحراك سلمي باتت مضربا للأمثال حول العالم، وموقف جماعي أصيل لا فرق بين أطياف الشعب ولا مذاهب فيه، ولكن تتمة الثورة حتى الآن تناست كل هذه المتطلبات والأهداف العظيمة، وانزلقت نحو خطاب متشدد يقسم المجتمع ولا يوحده أبدا، مؤكدة بالتالي أن مشكلة السياسة المصرية الحالية هي اللمسة الأخيرة، وبالتالي جهد اللاعب يضيع في أجمل محاورات و«ترقيصات» للاعبين في طول الملعب وعرضه وبجهد خرافي ولكن كل ذلك لا قيمة له دون هز الشباك وتسجيل الهدف.

الثورة المصرية ككرة ساخنة يتقاذفها الأطراف ويتخاطفونها، وكل يدعي ملكيتها، وبالتالي يحاول وضع بصمته الخاصة عليها، فهناك من ينادي «بسقوط العسكر» وآخرون يعتبرون أن شرعية الحكم تأتي من الميدان وليس من البرلمان، وهناك من يقول إن البرلمان هو الأساس والصندوق هو الحكم، لأن كليهما صدى وانعكاس لرغبة الشعب والشارع.

يتابع العالم حراك الدولة العربية الأكبر وهي يعاد تشكيلها السياسي تارة باسم حراك الشباب وتارة باسم الجيش، فريق يتحدث عن الأمل والمستقبل وفريق يتحدث عن الأمن والاستقرار، وكأن المسألتين لا يمكن تحقيقهما معا، ولا بد أن يكون اختيار إحداهما على حساب الأخرى، وتكرار هذه النغمة بشكل مستمر ومتواصل يثبت بالتالي الصورة الذهنية؛ أن الاختيار بين مسألتين يجعل بالتالي الفريقين على نقيضين، وهذا ليس بالضرورة حقيقة!

عموما «المباراة» أو الثورة لم تنتهِ بعد، وما زال الكل يراقب متأملا أن يكون التشطيب «بقصد الخرائط» والأهداف والآمال المنشودة لها، والأيام المقبلة ستكون مثيرة، ولكنها قد تكون مدعاة للأمل بقدر ما قد تكون مدعاة للإحباط!

[email protected]