هل المنطقة بانتظار حرب جديدة في ضوء تعقيدات الأزمة السورية؟!

TT

«الحرب أولها الكلام»، والواضح أن التأزيم الطائفي المتصاعد الذي بدأه رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي داخليا، قد اتخذ بعدا إقليميا أولا بدخول إيران على الخط من أعرض الأبواب وأوسعها، وثانيا باستهداف تركيا وافتعال معركة كلامية مع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، وهذا كله وضع المنطقة أمام احتمال اشتعال حرب إقليمية ذات أبعاد مذهبية، أساسها هذه الأزمة السورية التي بقيت تزداد تعقيدا على مدى عام مضى وأكثر، بسبب إصرار نظام بشار الأسد على معالجات تكسير العظام والحلول الأمنية، ونتيجة تدخل الإيرانيين على هذا الخط منذ اللحظة الأولى.

فور انطلاق شرارة الأحداث السورية بادر الرئيس بشار الأسد شخصيا إلى التهديد بأنه إذا تعرض نظامه إلى أي استهداف جدي فإن الدمار سيشمل المنطقة كلها، وأن الدول المجاورة ستدفع الثمن غاليا، ولذلك، واستنادا إلى هذا التهديد، فقد ساد اعتقاد، تأكد لاحقا، بأن إيران ستدفع في اتجاه مواجهة إقليمية لتعزيز رؤوس جسور نفوذها في الإقليم كله، ولتستبعد أي دور لتركيا الأردوغانية في المحيط العربي وفي الشرق الأوسط، ولتضمن سيطرتها الكاملة على العراق أو على جزء منه، وتحافظ على هذا النظام السوري الذي هو أكبر وأهم حليف لها في هذه المنطقة الاستراتيجية.

ولذلك عندما يأخذ الفرز في الإقليم الشرق أوسطي كل هذا الطابع الحاد بملامح طائفية واضحة، حيث هناك المحور الإيراني الذي يضم سوريا بشار الأسد وعراق نوري المالكي، ويضم أيضا الجزر «الديموغرافية» ذات اللون المذهبي في المنطقة العربية، مثل حزب الله اللبناني، والمجموعات الحوثية في اليمن، والذي يقابله تمحور يعطيه البعض بعدا مذهبيا معروفا يضم تركيا وكل دول الخليج العربي، ويضم أيضا إقليم كردستان بزعامة مسعود بارزاني، وإياد علاوي وتحالفه، ومعهما التيار الذي يمثله طارق الهاشمي - فإن هذا يعني أن المواجهة الساخنة ببعد إقليمي تصبح واردة في أي لحظة يصبح فيها ضبط النفس متراجعا لمصلحة النزوات الحادة والقرارات الخطيرة غير المحسوبة العواقب.

وهنا فإن ما يعزز كل هذه التقديرات أن الواقع الدولي أصبح هو أيضا بدوره مقسوما إلى معسكرين متناحرين، وعلى غرار ما كان في مراحل صراع المعسكرات، فهناك الآن روسيا والصين، ومعهما بحدود معينة الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، كاتجاه واضح الانحياز إلى إيران وسوريا بشار الأسد ومن معهما ويدور في فلكهما، كالاتجاه الذي يمثله نوري المالكي في العراق، وكحزب الله اللبناني، وباقي الجزر الطائفية المتمذهبة التي باتت بمثابة جاليات إيرانية في المنطقة، وهناك في المقابل دول الغرب الأوروبي ومعها أميركا، وإن بنسب متفاوتة، ودول الخليج العربي كلها، وإن بنسب متفاوتة أيضا، كاتجاه واضح الانحياز إلى تركيا التي هي رأس حربة هذه المجموعة، وواضح الانحياز أيضا إلى الثورة السورية.

ولعل ما يؤكد وجود مثل هذا الاستقطاب المشار إليه أن روسيا ماضية، كما هو واضح، في خوض معركة بشار الأسد ضد شعبه بالدبلوماسية والأسلحة، وبالقواعد البحرية في طرطوس، والأساطيل المرابطة في البحر الأبيض المتوسط مقابل الشواطئ السورية، وأيضا بالخبراء والمخابرات، وربما بالأموال أيضا، وإن الصين لا تزال تنحاز سياسيا، وإن على استحياء وخجل، إلى هذا النظام السوري، وبخاصة في مناورات الكر والفر والمواجهة المستمرة في مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة.

كما أن ما يثبت وجود هذه الخارطة أيضا أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لم يخجل من اتهام المعارضة السورية بأنها تسعى لإقامة نظام سني في دمشق، وأن محمود أحمدي نجاد قد قام قبل أيام بزيارته الاستفزازية إلى جزيرة (أبو موسى) الإماراتية المحتلة، وأن نوري المالكي تقصد القيام بزيارته الأخيرة إلى طهران، وفي هذا الوقت بالذات، حيث بلغت عمليات الاستقطاب بملامح مذهبية وطائفية في هذه المنطقة ذروتها، وحيث استقبله نائب الرئيس الإيراني محمد رضا رحيمي بتصريحات تصعيدية دعا فيها إلى إقامة اتحاد بين العراق وإيران «بشكل تام.. ولتشكيل قوة كبيرة على الصعيد العالمي»، وكل هذا وقد أصرَّت القيادة الإيرانية، في خطوة لها معناها، على نقل المفاوضات النووية بينها وبين الغرب الأوروبي، ومعه الولايات المتحدة، من أنقرة إلى العاصمة العراقية بغداد. وكل هذا والمعروف أن نظام بشار الأسد قد حاول منذ البدايات افتعال مشكلة مع تركيا من خلال العودة لاحتضان حزب العمال الكردستاني التركي، ودفعه للقيام بعمليات عسكرية عبر الحدود الطويلة بين البلدين ضد أهداف تركية عسكرية ومدنية على حد سواء، على غرار ما كان يحدث قبل اتفاقية عام 1998 التي بناء عليها تم تسليم عبد الله أوجلان تسليم اليد إلى أنقرة.

لكن يبدو أن تدخل الزعيم مسعود بارزاني العاجل على هذا الخط، وتأكيده على أنه لا حل للمشكلة الكردية في تركيا بالوسائل العسكرية، ومنع قوات حزب العمال الكردستاني التركي من التسلل إلى الأراضي التركية عبر الحدود العراقية في منطقة كردستان العراق، قد أفشل هذا المخطط السوري لكنه لم يلغه تماما، حيث تواصل إيران الإلقاء بثقلها في هذا الاتجاه، وحيث إنه من غير المستبعد أن يقوم نوري المالكي بدور كهذا الدور الإيراني عبر الحدود العراقية - السورية البعيدة عن سيطرة حكومة إقليم كردستان العراق الذي يتحكم بخطوط التماس مع تركيا من مناطق حاج عمران في الشرق، وحتى منطقة «زاخو» عند معبر إبراهيم الخليل في الغرب.

وقبل ذلك فإن المعروف أيضا أن بشار الأسد قد حاول جر إسرائيل إلى اشتباك عسكري محدود، ليُظهر أن نظامه مستهدف باعتباره نظام «ممانعة ومقاومة»، ولأنه في مواجهة مع «العدو الصهيوني والإمبريالية العالمية»!! من خلال إرسال مجموعات من الشبان الفلسطينيين لاقتحام الأسلاك الشائكة في اتجاه الأرض المحتلة عبر الجولان، لكن تلك المناورة لم يكتب لها النجاح لأن الإسرائيليين، كما يبدو، أفهموه أن عليه أن لا يكرر هذه اللعبة المكلفة معهم، ولأن حلفاءه الروس ربما نصحوه بأن لا يدفع بنيامين نتنياهو إلى تغيير موقفه تجاه ما يجري في سوريا من خلال مثل هذه الألاعيب الصبيانية.

والآن وقد أصبح الاستقطاب في هذه المنطقة بملامح مذهبية واضحة، فإن ما بات مؤكدا أن هذا التحالف الذي تقوده إيران، والذي تقف روسيا خلفه بكل ثقلها، سوف يفتعل مواجهة عسكرية مع تركيا، إن بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وإن عبر الحدود الإيرانية - التركية أو عبر الحدود السورية – التركية، إذا ما أحس بأن نهاية نظام بشار الأسد غدت مؤكدة وقريبة، ولعل ما لا جدال فيه أن نوري المالكي الذي بات مصيره مرتبطا بمصير النظام السوري، سيجد له موقعا في مثل هذه المواجهة، إن بالأموال والسلاح، وإن أيضا بالمقاتلين الذين سيستهدف بهم الإقليم الكردي بحجة الانتصار لعروبة العراق ووضع حد لما يعتبره النزعة الكردية الانفصالية.

لا يمكن أن تترك إيران هذه المنطقة وشأنها إن هي تأكدت من أن نظام بشار الأسد، الذي هو أكبر حلفائها في الإقليم كله، ساقط لا محالة، والمؤكد أنها ستبادر إلى افتعال مواجهات عسكرية ليشمل الدمار الجميع، وليكون لتركيا نصيب من هذا الدمار، وليصبح بالإمكان إقامة الدولة الطائفية التي بقيت تحلم بها في جنوب العراق لتكون بمثابة جسر مذهبي متقدم في اتجاه المملكة العربية السعودية وباقي الدول الخليجية.