المعادلة المنقوصة

TT

من حيث المبدأ - والمصلحة في نهاية المطاف - يفترض بديمقراطيات الغرب أن تشجع قيام أنظمة ديمقراطية في العالم النامي، خصوصا العالم الإسلامي المتهم من الغرب بأن أرضه ما زالت غير خصبة لنمو الديمقراطيات.

لكن بعد أكثر من سنة من اكتفاء ديمقراطيات الغرب النافذة بدور «المتفرج» على انتفاضة سوريا الديمقراطية يجوز التساؤل عما إذا كانت تطلعات السوريين إلى الديمقراطية ستذهب ضحية الديمقراطيات الغربية.

لا جدال في أن للحسابات الاستراتيجية دورها في تحديد مواقف الديمقراطيات الغربية - وحتى الإقليمية - من الانتفاضة السورية. إلا أنه يبدو أن بنيوية الأنظمة الديمقراطية الغربية تسهم - من حيث تقصد أو لا تقصد - في عرقلة الدعم المباشر والحازم للانتفاضة السورية، فيما تبقى الأنظمة الديكتاتورية (ممثلة في روسيا البوتينية والصين الماركسية) مطلقة اليدين من أي قيد أو عقبة في دعمها اللامتناهي للنظام الشمولي في سوريا. لسنا في سياق الادعاء بأن المواقف الدولية من الأزمة السورية ترقى إلى عملية مواجهة دبلوماسية أو «عقائدية» بين أنظمة ديمقراطية وأنظمة ديكتاتورية. لكنها تصلح من دون شك لأن تكون موضوع حالة دراسية (case study) لحدود، وقيود، تصرف حكومات النظامين حيال النزاع السوري.

من الصعب على أي مراقب سياسي لأسلوب تعاطي الأنظمة الديمقراطية في كل من الولايات المتحدة وفرنسا، وحتى تركيا، مع قرارها السياسي ألا يلاحظ أن شكليات أنظمتها الديمقراطية المتعددة - إن لم تكن المشتتة - المواقع والمراجع، تعرقل آلية اتخاذ أي قرار حاسم حيال الوضع السوري، فيما الآلية الموحدة لاتخاذ القرار السياسي في الأنظمة الديكتاتورية تسهله إلى أقصى الحدود.

حكومتا بكين وموسكو الشموليتان تتخذان قراراتهما بحرية مطلقة في الداخل، فباستثناء الاعتبارات الدولية والاستراتيجية (وهي مشتركة بين النظامين)، لا رأي عام داخلي يحاسب ولا برلمان نافذ يناقش ولا أحزاب أو تيارات مؤثرة تعارض. أما الأنظمة الديمقراطية في كل من فرنسا وأميركا وتركيا، فدونها واتخاذ قرار حازم من الأزمة السورية عشرات العقبات الدستورية وبؤر الضغوط الداخلية.

الإدارة الأميركية كانت أول من دعا الرئيس السوري، بشار الأسد، إلى التنحي عن السلطة، ومن أوائل من أعلنوا أنه «فقد شرعيته». ورغم أن وزير الدفاع الأميركي، ليون بانيتا، أبدى قبل أيام معدودة «استعداد» البنتاغون لتنفيذ أي سيناريوهات يقررها الرئيس الأميركي حيال سوريا، فإن الدعم الأميركي لانتفاضتها الديمقراطية ما زال مقتصرا على تصريحات رسمية وتنديد إعلامي بأساليب القمع العسكري التي يتبعها النظام.

ولا يبدو أن السبب يعود إلى حسابات خارجية بقدر ما يعود إلى التعقيدات «الديمقراطية» لآلية التدخل في الخارج وأبرزها، في تقدير المطلعين على تحركات أروقة الكونغرس، ذلك الجدل «الديمقراطي» الدائر بين جناحين نافذين أولهما يدعو إلى تصعيد التدخل بداعي أن سقوط النظام السوري سيشكل صفعة للجمهورية الإسلامية في إيران ونكسة لحزب الله في لبنان، وثانيهما يعارض التدخل بشدة - مدعوما من «اللوبي» الإسرائيلي في واشنطن - مخافة الوقوع في المجهول ووصول قوى متطرفة مناوئة لإسرائيل إلى سدة الحكم في دمشق.

أما فرنسا التي ذهب رئيسها، نيكولا ساركوزي، إلى حد الدعوة إلى إيجاد «ممرات إنسانية» في سوريا تسمح باستمرار تحرك المعارضة، فمن شأن استحقاقها الديمقراطي الداهم، أي الانتخابات الرئاسية، أن تعيد ترتيب أولويات رئيسها الجديد على وقع القضايا التي أثيرت في سياق المعركة الانتخابية ومعظمها قضايا داخلية واقتصادية.

أما تركيا - المعنية أكثر من الديمقراطيات الأخرى بالشأن السوري - فقد تكون أكثر الديمقراطيات المتعاطفة مع الانتفاضة السورية انعتاقا من الضغوط الداخلية (بوجود رأي عام داخلي يؤيد بأكثريته الجارفة هذه الانتفاضة)، وهذا الدعم سمح لحكومة أردوغان بتوجيه تحذيرات علنية للنظام السوري وحتى في التلميح بإقامة «منطقة حرة» على الحدود.

مع ذلك يبقى قرار التدخل التركي المباشر رهين موقف حلف الأطلسي المرتهن، بدوره، باللعبة «الديمقراطية» في الكونغرس الأميركي الذي «يستبعد»، حتى الآن، أي تدخل عسكري في سوريا.

.. باختصار، هل يتحمل حملة لواء الحريات والديمقراطية في عالم اليوم تهمة أي من رواد الديمقراطية السورية لهم بأنه «من بيت أبي ضربت»؟