لعبة النماذج: لماذا لا توجد نماذج عربية متعددة؟

TT

بينما لا يزال مصطلح الربيع العربي يتصدر عناوين الصحف، يناقش الأكاديميون والسياسيون المسار الذي ستتخذه الدول التي تأثرت بهذا الربيع.

هناك تكهنات بشأن «النموذج التركي» كمصدر إلهام للنخبة الجديدة الحاكمة في الدول العربية، حيث شجع رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان وجهة النظر هذه باتخاذه مواقف علنية مؤيدة للثورات العربية.

في الوقت نفسه، تزعم إيران أن «الربيع العربي» سوف يؤدي إلى تبني «النموذج الخميني». وحاولت إيران تشجيع وجهة النظر هذه بتنظيم مؤتمر «الصحوة الإسلامية»، وأنشأت أمانة عامة لتأكيد هذا الزعم. ومن جانبهم، يأمل بعض الساسة الأميركيين والأوروبيين في تبني العرب نموذجا غربيا.

ما صحة تلك المزاعم؟

تعتمد تلك الادعاءات الثلاثة على ثلاث فرضيات قابلة للمناقشة:

الفرضية الأولى أن أي دولة قادرة على تبني أي نموذج سياسي اجتماعي بالسهولة نفسها التي يستطيع بها المرء اختيار منتج في سوق كبرى، بينما الواقع يختلف عن ذلك، فحتى عندما تتشارك النخب الحاكمة الحديثة معتقدات آيديولوجية مشتركة فإنها لا تتبنى النماذج من بعضها.

وقعت الصين تحت الحكم الشيوعي عام 1949 لكنها لم تتبن (لم تتمكن في حقيقة الأمر) النموذج السوفياتي، كما لا يشترك نموذج كوريا الشمالية الشيوعية في الكثير مع نموذج كوبا الشيوعية. ولا تتبع الديمقراطيات الغربية نموذجا واحدا أيضا، حيث تختلف الديمقراطية الاشتراكية في فرنسا عنها في إيطاليا. وعلى الرغم من أن من قام بكتابة الدستور الياباني أميركيون فإن اليابان ليست قائمة على «النموذج الأميركي»، هذا إذا سلمنا بوجود نموذج أميركي.

وعلى مستويات رمزية، تشترك جميع الدول تقريبا في العديد من السمات. فكل الدول لها أعلام، ونشيد وطني، وشكل من أشكال البرلمان، وجيش دائم، وتمتلك جميعها عملة وطنية.

ومع موجة العولمة يزداد المظهر الاقتصادي والثقافي للدول تقاربا. فيجد المرء اليوم المتاجر والمقاهي نفسها من برازيليا حتى بانكوك، مرورا ببراتيسلافا حتى بغداد حيث يطلق البعض على ذلك العالم الجديد «الامتياز في كل مكان».

على الرغم من ذلك، نجد لدينا عالما يمتلئ بالاختلافات، يتعدى المستويات الرمزية، حيث تتخذ كل دولة نهجا حياتيا خاصا طبقا لتاريخها وثقافتها وعاداتها، وطموحاتها.

الفرضية الثانية هي أن النموذج هذا أو ذاك ثابت وغير قابل للتبديل. بينما الواقع أن النظام السياسي للدولة، مثل نظامها الاقتصادي، قد ينمو ويتغير. فالنموذج التركي على سبيل المثال، يعنى بالأساس بتعايش الحكومة الإسلامية جنبا إلى جنب مع جيش علماني وسياسة خارجية شبه معادية للولايات المتحدة.

على مدار العقد السابق، تقبل أردوغان وحزبه المؤسسات العلمانية لجمهورية تركيا. ففي الحكومة، تم استخدام الصورة المخففة من الإسلام السياسي لتأمين امتيازات لمؤيدي الحكومة أكثر من فرض قيم دينية حقيقية أو خيالية. وفي السياسة الخارجية، خرجت حكومة أردوغان عن مسارها لتحتفظ تركيا بعلاقات وثيقة مع حلف الناتو والولايات المتحدة، وجاء قرار أنقرة باستضافة الدرع الصاروخية لحلف الناتو موجها ضد إيران، كما أكد التعاون مع الاتحاد الأوروبي بخصوص المشروع النووي لطهران مجددا تحالف تركيا مع الولايات المتحدة. والفرضية الثالثة التي تحتاج تحليلا هي أن العرب غير قادرين بشكل ما على تطوير نموذج (نماذج) خاص بهم.

كصفة، تطلق كلمة «عربية» على دول عديدة مختلفة، لديها خلفيات تاريخية مختلفة، وتقاليد وهياكل اقتصادية اجتماعية مختلفة، حتى إن الجزائر والمغرب، على الرغم من أنهما دولتا جوار، تسلكان مسارات مختلفة.

حتى ما يسمى بـ«الربيع العربي» ليس حدثا واحدا، لكنه يشبه الثورات التي اجتاحت أوروبا عام 1848، حيث كانت مجموعة من الأحداث المختلفة أكثر من كونها غضبا شعبيا يقلد نموذجا أسطوريا.

ويتوقع أن تنتج عملية التغيير في الدول التي يطلق عليها «العالم العربي» نماذج عديدة مختلفة على مستوى السياسات المحلية والخارجية.

بيد أن هناك عددا من التوجهات العامة التي تبدو واضحة بالفعل. قد تنضم سوريا، بعد التحرير، بالإضافة إلى لبنان والأردن ومصر إلى دول شمال أفريقيا في إعادة صياغة نظرتها التاريخية نحو عالم البحر المتوسط وأوروبا. وسوف تخلو هذه النزعة من التحول الراديكالي نحو معاداة الغرب، أو حتى معاداة إسرائيل.

في مصر، تملي المصالح الوطنية الحفاظ على اتفاقية كامب ديفيد، بينما تصبح العلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة حيوية لتنمية اقتصاد حديث لمواكبة الفقر المنتشر على نطاق واسع والبطالة. في الوقت ذاته يبدو واضحا أن دول الخليج ترنو إلى الشرق، حيث أصبحت الصين أكبر مستورد للنفط الخام، بينما يبدو العراق وحيدا (يتجنب أي مساعدة)، على الأقل لفترة بسبب ما يواجهه من تحديات عديدة بخصوص هويته القومية.

يوجد اتجاه آخر نحو تقبل تقاسم السلطة، كشيء حتى إذا كان غير مرغوب فيه فهو حتمي. ففي العديد من الدول التي لها علاقة بالأمر، قد تتطور السياسات الائتلافية لتكوين حكومة.

وتوشك الدولة القائمة على الحكم العسكري (نموذج تم تطويره بأشكال مختلفة في دول عربية عديدة بعد سقوط الحكم الاستعماري) أن تضيع في غياهب التاريخ. ففشلها في جميع أشكالها جعل هذا النموذج يحظى بدعم ضئيل خارج نطاق الأشخاص الذين يغلبهم الحنين للنظام القديم. وقد رفضت أغلب الأحزاب في الربيع العربي فكرة تبنى «النموذج التركي»، ويكاد يكون الاستثناء الوحيد هو حزب النهضة التونسي الذي يرى نفسه صورة من حزب أردوغان (العدالة والتنمية)، لكن ما يعنيه النموذج التركي هو قبول حزب النهضة لنظام سياسي علماني في تونس.

بالنسبة للنموذج الخميني، تمثل التجربة المأساوية لإيران عبرة أكثر منها مثالا للجميع في المنطقة. وقد تكون مقاومة النهج الخميني عاملا موحدا للسياسات الخارجية لدول الربيع العربي الناشئة، والدول العربية التقليدية وتركيا.

في ما يخص النماذج الأكاديمية للنظم السياسية، لماذا يجب علينا أن ننظر دائما للنموذج التركي أو الإيراني أو النماذج الغربية.. لماذا لا تطور الدول العربية نماذج مختلفة خاصة بها؟