من قال إنه ربيع عربي؟

TT

بصرف النظر عما يقوله اللغويون، فإن التآمر وفق مفهوم الاستخبارات يعني إعداد خطط سرية خاصة للقيام بفعل ما يستهدف طرفا محددا في جبهة مقابلة، وعندما يكون التآمر موجها إيجابيا لخدمة الإنسانية ولنصرة المكافحين من أجل كرامتهم، فإن القائمين به يستحقون الثناء، وتصبغ كلمة التآمر بصبغة العدل والإنصاف، وكان من الصعب توقع «انتشار» ما يسمى «الربيع العربي» لولا وجود مراكز تخطيط، حتى لو سميت أوكار تآمر، تستند إلى مصروفات مالية بلا قيود، وإعلام قوي، وفرق استخبارات تعمل كخلايا النحل، وقد تركز هذا في منطقة الاعتدال التقليدي من العالم العربي.

للوهلة الأولى، بدت حرب إسقاط القذافي عملا عدائيا سافرا من قبل العرب قبل غيرهم، إلا أن من يقرأ ويطلع على الأدوار الغوغائية التي لعبها رجال ثورة الفاتح «العظيمة» بمن فيهم رؤوس كبيرة أصبحت معارضة للقذافي، وتآمرهم الصبياني «السلبي» على المصالح العربية العليا والأمن الدولي، يتغير أمامه اللون العدائي إلى صبغة مشروعة تستحق الثناء، وهو ما نهضت به بعض دول الاعتدال بالدرجة الرئيسية، والجامعة العربية في حقبة موسى، وكانت الضربات الجوية والصاروخية، واندفاع الإسلاميين وفق مخطط لا تزال أبعاده مشوشة، والدعم اللوجستي الخليجي، والحملات الإعلامية الفضائية، العوامل الحاسمة في إسقاط نظام العقيد.

ما حدث في تونس كان تونسيا بالكامل، وتعاملت حركة النهضة بطريقة واقعية حتى الآن، أما الفعل الخليجي فبدأ قطريا في مصر واليمن، وصولا إلى دور أكثر وضوحا في الموجات المتعاقبة، خصوصا في الملف السوري الذي تحول إلى حرب داخلية مفتوحة وباردة إقليميا، ومن المستبعد طي صفحة الانتفاضات ضمن إطار الفعل القائم ومساحاته، وكانت هناك اختلافات بين تكتيكات دول الخليج، قبل أن تنتقل العلاقة بينها من مرحلة الشك والريبة السياسية والأمنية التي كانت قائمة في فترة ما قبل احتلال الكويت، إلى مرحلة الشعور بوحدة المصير. فبعد أن تخلص الخليجيون مما كانوا يرونه تهديدا من ممارسات وتوجهات الأحزاب القومية من ناصريين وبعثيين، اصطدموا بثلاثة مصادر تهديد هي: محاولات العنف المنظم وتمت السيطرة عليها، والقلق من أن تؤدي الانتفاضات الشعبية العربية إلى خلل في التوازن الإقليمي وهو أمر واقع حاليا، واتساع شقة الخلافات مع إيران.

ولأسباب حظيت بتأييد شعبي، تفاعل الخليجيون (عدا دولة واحدة) مع الموجات الشعبية بقوة تدريجية، وممارسات تجاوزت التحفظات المعتادة في سلوكهم السياسي، فتحولوا إلى داعمين للثوار المعتدلين بلا شعارات، واستحوذوا على الإعلام العربي بوسائل لم يعد أحد قادرا على تجاهلها، بكل ما تحمل من توعية وتوجيه وأبعاد نفسية. وأصبحت ثورية عبد الناصر خليجية قطرية، وانتقل دهاء كيسنجر إلى مركز الثقل، وتحول راديو صوت العرب في الخمسينات والستينات إلى الفضاء المرئي المفتوح، إلا أن صوت أحمد سعيد لا يزال وقعه عندي أشد.

ولو قدر لذوي الاختصاص الاطلاع على ملفات الاستخبارات الإقليمية والمناقشات التي تجري بين كوادرها وخطط عملها، لتوصلوا بسرعة إلى أن ما يدور ليس إلا حربا سرية ساخنة، لم يعد من مجال للتراجع فيها، لأنها مصيرية، وستقود إلى قلب معادلات الشرق الأوسط رأسا على عقب، ولم يعد الدور الأميركي قائدا.

لذلك، فما يجري لم يعد ربيعا عربيا بالمفهوم المتداول كما بدأ، بقدر ما هو صراع حتمي بمناورات حساسة تستخدم فيه موارد ضخمة، والفشل فيه قد يقود إلى خيارات التوجه النووي، حيث تقلصت فرص الحوار والتفاهم إلى حد التلاشي، بعد سلسلة طويلة من تجارب الفشل، أما من المنتصر؟ فهذا يمكن استنتاجه من مراجعة حركة التاريخ ضمن فلسفة المطاولة والقدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة، فالحروب الفاصلة غالبا ما تكون طويلة ومؤلمة.

كانوا يتحدثون عن شرق أوسط جديد، أما اليوم فأصبح الشاب التونسي ملهما لأجهزة الاستخبارات وللقادة السياسيين، ولا أعرف مدى كفاءة الجيل الجديد من أجهزة الاستخبارات العربية، إلا أن الدلائل تشير إلى تطورات مهمة ومثيرة في أداء هذه الأجهزة، وأن الدفاع عن حقوق الأمة من خلال مساندة الثوار ينبغي أن لا يسمح بتمادي الغوغاء من جهلاء الصبيان والمتحجرين، وضرورة تقديم المنشطات لدول الشمال الأفريقي لانتشالها من برك التقوقع.

مع ذلك، فالخليج مطالب بمبادرة سلمية علنية واقعية (موازية) لحل الأزمة السورية، بعدها تقام الحجة على من يتجبر.