ما نتركه لهم

TT

لا أدري متى توقفت تلقائيا عن التفكير في نفسي، أي منذ متى لم يعد الهاجس هو أنا، ربما منذ ولادة ابني، ربما بعد مجيء شقيقته، ربما بعد ذلك، فالأنا لا تفارقنا تماما، لكن مشاعرنا الأخرى تقوى عليها مع الأيام، كلما ذوينا، صارت شعلة أولادنا هي الأهم، تشاركنا سر البقاء ويناع الأمل، يصير ما نريده خليقا بالجيل الجديد لا بجيل الخريف والغصون التي لا تتجدد براعمها، نتذكر دعوات أمهاتنا الخائفات من غدرات الزمان: «الله يعطيكم أياما حلوة».

لا أدري منذ متى صرت أخاف على أيام أولادي، نحن عرفناها، أيامنا، حروبا ونكبات ونكسات ومعارك، من بيت إلى بيت، ومن شرفة إلى شرفة، وهجرات من ميناء إلى ميناء ومن قطار إلى قطار، وخوف من الجنون التالي، ومن الضياع التالي، ومن الظلم الأبدي. عشنا حياتنا على مزاج فرد، وما أوتي من عقل أو رحمة، مشينا في الصفوف الطويلة ونحن نصفق للظلم أو الجنون أو السادية. خسرنا الأرض قطعة قطعة وصفقنا، وخسرنا البيوت وتظاهرنا بالرضى، وخسرنا الفرص والعدالة والكرامة ونحن نهلل في الشوارع والصحف والمسارح.

نتمنى لأولادنا أياما أفضل: أرضا لا تسرق ولا تحتل ولا تغتصب، بيوتا لا تخلع أبوابها، وسائد لا يفسد راحتها الزعران والمغامرون والعابثون بحرمة الأوطان. نتمنى لأولادنا وطنا أفضل مما عرفنا، وهناء غير متقطع كالذي عرفناه، وعدالة وفرصا ومساواة، ورجالا لا يفسدون في الكون أو يفسدون الكون، كما حذر أرسطو، الذي ساءه أن في التكوين البشري طبقة كاملة خاصة بالفساد.

في مثل سن ابني وجدت لنفسي مكانا في لبنان، كان كل شيء أرحم من اليوم، والدنيا كانت أرحب، وعلى صغر لبنان كانت فيه أمكنة كثيرة، وجيل ابني لا مكان له اليوم إلا من له في لبنان «سند» بالتعبير المافياوي الفج، ولا أقصد أن لبنان هو الأسوأ، ليس ذلك على الإطلاق، على الأقل نتنفس ونعترض برغم معرفتنا أن الاعتراض و«السرماية العتيقة» سيان، كما في اللغة السياسية الجديدة.

على الأقل أنا ولدت في زمن بلاغة بشارة الخوري ورياض الصلح، وشببت في زمن فؤاد شهاب وريمون اده وصائب سلام ورشيد كرامي وكمال جنبلاط، أما اليوم فيسألني ابني لماذا يستخدم النواب في البرلمان كلمة «صباط»؟ وما هو المقصود بالجملة «تحت الزنار»؟ ماذا يلقى أولادنا؟ مدنا مهدمة، جثثا ملقاة على الطرقات، ونشرات إخبارية تحصي القتلى كالماشية في المسالخ، ويأسا، وحروبا أهلية، وجيوشا تدك أبناءها، وقحطا اقتصاديا مزمنا، وخوفا يوميا، وعملات مزيفة، وليس مزدهرا سوى الجهل والفقر والعذاب والآلام والموت.

يرفض هذا الجيل أن يكرر حياة آبائه، يستنكر حياة تحيا على هامش الحياة، يرفض أن يتجمع في صدفة الصمت طوال العمر، ويكره الركوع القابع في النفس، ويهوى أن يرد التحية لمن يحب وليس للشرطي السري الماشي على الصدور وكأنه قبر فوقي، يعاتبنا الجيل الطالع بحزن وشفقة: ماذا فعلتم بأنفسكم وماذا فعلتم بنا، ما هو هذا الأب الذي لا يحسب حسابا لأبنائه، لماذا هنتم وسهل الهوان عليكم، ما هذه الفزاعة التي تتركونها لنا، ما هذه المجموعة الكريهة من النكبات والنكسات والفظاعات ومقابر الأهل والإخوة.