من ذا الذي افترى فزعم أن المرأة أقل من الرجل في التحصيل العلمي والإبداع فيه؟!. أيا كان مصدر الفرية، فإن الحقائق العلمية الموضوعية لا تزال تتتابع وتتعاضد على بطلان تلك الفرية.. ومن هذه الحقائق: الدكتورة السعودية حياة سندي.. نعم. فهذه المرأة المتوهجة علما ومعرفة هي نفسها «وثيقة آدمية» حية تبرهن على أن النساء يمكن أن يرتقين إلى أعلى مرتبة مستطاعة في معراج العلم والمعرفة.. منذ أيام نشرت «الشرق الأوسط» قبسا من السيرة العلمية للدكتورة حياة.. ومن مراحل تلك السيرة: أنها تمكنت من إنجاز اختراع على شكل شريحة حيوية غير مسبوقة، وهي مجرد بقعة من الألمنيوم على قرص من الزجاج تعين العلماء على فهم كيمياء الحياة أي «الحمض النووي والبروتينات والإنزيمات» وهي أداة توفر للأطباء فرصا للكشف عن أخطر الأمراض (كالسرطان مثلا).. ومن مضامين عجيب اختراعها: أن تلك الشريحة لا يزيد حجمها عن حبة الأرز تحمل عشرات الألوف من الأجهزة الدقيقة الحساسة، ويمكنها قياس الدم في ثوان.. ولذا تنافست الجامعات العالمية التي تعرف للاختراعات قدرها على جذب بحوث الدكتورة حياة سندي.. وعلى سبيل المثال فقد رشحتها الجمعية الجغرافية الأميركية لكي تنتظم في قائمة القادة المكتشفين الناشئين. كما رشحتها جامعة هارفارد للانضمام إلى «لوحة» الـ50 شخصية من المبدعين الأكثر فاعلية ونشاطا في الولايات المتحدة.. كما لحظنا في سيرتها ملحظين مهمين:
1 - أنها لم تكتف بتحصيل العلم والمعرفة، بل حرصت على أن تكون لها بصمة إنسانية في «فلسفة العلوم» وهو حرص تمثل في طرح منهج تسخير العلوم لصالح الإنسان فحسب.
2 - الملحظ الثاني قولها: «عند خطواتي الأولى هناك - أي في لندن - سمعت من مدرس متميز في تخصصه: أنه يتوقع لي الفشل، وذلك لسببين في رأيه، الأول هو أن العلم لا يتماشى مع الدين. والثاني أنني امرأة في مجال يسيطر عليه الرجال».
وهذا اتجاه غريب بل شاذ من أستاذ يلزمه منهجه العلمي بالتجرد للعلم في أثناء تدريسه.. ومن بدهيات التجرد: ألا يحشر آيدلوجيته في التخصص العلمي فيزعم - بلا دليل - أن العلم لا يتماشى مع الدين. فهذا كلام آيدلوجي لا علمي.
ومها يكن من أمر فإن هذه الدكتورة المسلمة أثبتت حقيقة تناغم العلم والدين، وأن شخصيتها هي نفسها «مجال هذا التناغم وميدانه»، فهي لم تترك دينها، ولم تهز يقينها شبهة ذلك الأستاذ الذي يبدو أنه من المنحازين إلى تصورات الإلحاد.. أجل لم يهتز يقينها بما تؤمن به، ومع ذلك نجحت في الحقل العلمي، بل تفوقت وأبدعت. وهذا برهان واقعي موضوعي على بطلان شبهة ذلك الأستاذ.
وبذلك تكون هذه الدكتورة المسلمة السعودية قد طرحت أكبر قضيتين في التاريخ البشري الحديث والمعاصر:
أولا: قضية «النهضة في أوروبا» ومحاولة تفسيرها بأنها «نهضة ملحدة» - مع أن الحقيقة غير ذلك كما سيتبين بعد قليل -.. وقضية النهضة المتعثرة في العالم الإسلامي، ومحاولة فرض المفهوم الغربي الإلحادي عليها مثال ذلك: أن رموز النهضة في مصر من أمثال رفاعة الطهطاوي، هناك من حاول - جهلا أو خبثا - أن «يفرض» عليه الإلحاد والعلمانية، على حين أن الرجل شيخ أزهري عريق موفور الإيمان بالله، نزع إلى التوفيق بين العلم والدين في غير تأويل فاسد للدين، ولا تفسير منحرف للعلم.
ثانيا: قضية الزعم بأن الدين والعلم نقيضان لا يلتقيان، وعدوّان لا يصطلحان.. ألم يقل أحد مدرسي الدكتورة حياة سندي لها: إنك ستفشلين من حيث أن الدين لا يتماشى مع العلم. وهو قول تقليدي، بمعنى أن هذا الأستاذ قلد فيه غيره ممن سبقه.. وهي أقوال تعمد الإعلام أن يضخمها ويبرزها ويمجدها حتى أصبحت وكأنها هي الحقيقة التي لا ريب فيها، وأن جمهرة علماء النهضة الأوروبية ومفكريها ملاحدة.
وهذه دعوى غير صحيحة، بل هي - في حقيقة الأمر - «دجل» من الدجل البواح.
لا نكران لوجود علماء ومفكرين ملاحدة في النهضة الأوروبية، بيد أن الأمر المستنكر هو الربط الوهمي التدليسي بين العلم والإلحاد. إذ الإلحاد قديم جدا سبق هذه النهضة بألوف السنين لأنه - في حقيقته - «أزمة نفسية حادة»، لا علاقة لها بالمنطق العقلي، ولا بالمنهج العلمي، وإلا فعلى أي منهج علمي استند فرعون وهو ينفي وجود الإله الحق، ويثبت الألوهية لنفسه فقط: «ما علمت لكم من إله غيري»؟!.
إن معظم التنويريين الأوروبيين لم يهاجموا العقيدة والإيمان، بل هاجموا الخرافة (وهذا من حقهم).. ولم ينقضوا الدين، وإنما نقضوا الكهانة (وهذا من حقهم).. وعند التفصيل: نذكر هذه الكوكبة من أعلام النهضة والتنوير الأوروبيين. وهم أعلام ركزوا نقدهم الصارم على الخرافة والدجل والكهانة والجمود العقلي وعبادة الأشكال الدينية، ولكنهم لم يمسوا جوهر الدين، ولا الأخلاق الصالحة المنبثقة منه.. ومن هؤلاء:
1 - ديكارت.. (الذي نَعُدُّه المؤسس الحقيقي لليبرالية الحقة لا المتوهمة). والبرهان على ريادته الحرة هذه «مقالته في المنهج» التي أسهمت بحظ وافر في شق طرق واسعة للتفكير العلمي السديد.. هذا الرجل كان مؤمنا بالله إيمانا قويا مستبصرا. ولم يك من الملحدين.. وكان يقول: «ليس علم الملحد علما حقا لأن المعرفة المشوبة بشبهة لا يحق لها أن تسمى علما».
2 - فولتير.. لم يك هذا الرجل الحر الشجاع معاديا للدين - من حيث هو دين -، بل إنه بنى كنيسة في ضيعته وكتب على بابها «فولتير بنى هذه الكنيسة لله». وكان يحضر الصلاة فيها أيام الآحاد والأعياد، وكان أحيانا يلقي الموعظة فيها بنفسه.. لم يك فولتير ملحدا، ولكنه - بالتوكيد - كان شديد الضراوة والبأس على الخرافات والأوهام التي تعلقت بالدين والكنيسة، وكان يؤمن بـ«الضرورة الاجتماعية للدين»، ولكنه يكفر بسلوك جر الدين لتأييد الظلم والطغيان واستبعاد الجماهير المستضعفة.
3 - كانط.. الذي كان يفهم «الوضعية المنطقية» فهما منهجيا مستنيرا، مزيلا عنها ما لحق بها مما ليس في جوهرها، ولا أدوات البحث فيها.. كان يرى أن يُستمد البرهان على الكونيات من ظواهرها الملموسة والمشاهدة، ويرى أن محاولات استعمال هذه الأدوات في العلم بما وراء الطبيعة تخبط لا طائل من ورائه. وكان يقول: لو كان الكون مركبا على نحو آخر لجاز أن يكون في استطاعة الإنسان إدراك ذلك الجانب الغيبي الذي يجاوز عالم الحس والشهادة.. ولقد سلك أوجست كومت ذات مسلك كانط، وكلا الرجلين لم يك ملحدا. على الرغم من تعمقهما في الوضعية المنطقية التي اتخذها البعض طريقا للإلحاد.
4 - نيوتن.. الذي تيسر له فتوحات جليلة في ميدان العلم، وهي فتوحات استفاد منها العلم والعلماء - من بعد - أيما استفادة.. كان هذا العالم الكبير مؤمنا بالله ولم يكن من الملحدين.. ولم يقل - يوما - : إنه يؤمن بالعلم فحسب، ولا يؤمن بالدين لأنهما نقيضان لا يجتمعان، كما زعم أحد أساتذة الدكتورة حياة سندي.
بل كان نيوتن ينتقد الملاحدة المعاصرين له ويقول لهم: كيف تستطيعون تفسير وجود هذا الكون المنظم بدقة، البديع في كل شيء.. كيف تستطيعون تفسيره دون وجود خالق عظيم حكيم مبدع؟
5 - وما قاله نيوتن يقوله كل عالم راسخ كبير ذو عقل وضمير.. يقول أحد أعلام علم الأحياء في أميركا البروفيسور إدوارد لوتر كيسيل: «إن فكرة التطور الخَلْقي لا يمكن أن تكون منافية للعقيدة الدينية، بل على النقيض من ذلك، نجد من الحماقة والتناقض في الرأي أن يسلم الإنسان بفكرة التطور ويرفض أن يسلم بحقيقة وجود الخالق الذي أوجد هذا التطور».