تناقضات ثورية

TT

تذكرت ما يعرف بقاعدة النتائج غير المتوقعة law of unintended consequences لخطوة دبرناها بأنفسنا أو شاركنا في اتخاذها، عندما أخضعت للتحليل ملاحظة بعض ما نشر عن الثورة المصرية.

مواجهة طريفة بين مراسل غير مصري (غالبا مقيم في مصر لفترة معتبرة) ومرشح الرئاسة، الدكتور عمرو موسى، أثناء مؤتمر صحافي للأخير بالإنجليزية لوسائل الصحافة غير المصرية.

سأل المراسل الدكتور موسى: «هل أنت من الفلول؟».

خبرة عقود من العمل كسفير فوزير للخارجية فأمين عام لجامعة الدول العربية، تزود الدبلوماسي المحترف بمهارة الحديث في أي موضوع والرد على كل الأسئلة بتفاصيل تعجز السائل عن اقتناص إجابة مركزة تحدد نيات المجيب أو سياسته. وبالمهارة نفسها يوجه للمستفسر سؤالا، بريء الظاهر، يترك لسانه مغموسا في النتروجين السائل.

رد الدكتور موسى: «هل تعرف معنى الكلمة المصرية (فلول)؟»، ثم لحقها بـ«وما المقصود حرفيا بالفلول؟».

الدكتور موسى أدرك أن تسونامي الجهل الذي أغرق الأمة المصرية، غطى على فتحات التنفس الذهني لمراسلين أجانب تمصروا مزاجيا وثقافيا (ظهر المراسل بجينز وتي- شيرت، وليس بالبدلة والكرافت «يونيفورم» أي صحافي يحترم المهنة).

بدا الشوط الأول ممتعا بسحب الدبلوماسي للسان المراسل الببغائي حتى تتعثر قدمه فيه. للأسف قطعت متعة مشاهدة مبارزة البديهة الحذقة بتدخل مراسلة شقراء بثقة الضحالة الأنثوية (سيثور غضب الصحافيات اليساريات النسويات ليرجمن ديناصورا يغضبه اقتحام الجنس اللطيف، شارع الصحافة، لكن أقسم إن التعميم هنا هو حصيلة خبرة أربعة عقود تعامل مع الصحافيين من الجنسين) لتشرح – بالإنجليزية – بأسلوب أبلة تشرح للتلميذ الخايب في آخر الفصل «الفلول هم بقايا نظام.. » حتى قاطع الدكتور موسى المدموزيل طيبة النيات بأنه والمراسل يعرفان، بل يريد تعريفها السياسي في سياق الانتخابات.

الملاحظة الأخرى الخلط بين مناهضة انتهاك البوليس حقوق الإنسان، وبين الاستهانة بالقانون وبالقضاء ولجنة الترشيح، من جانب المرشحين أنفسهم إذا ما استبعدتهم وفق لوائح وقواعد، قادوا المظاهرات من أجل أن تصبح شروطا للترشح للرئاسة.

غالبية المرشحين يوسع دائرة مؤيديه بغوغائية معاداة الغرب الاستعماري الذي تحرك إسرائيل أخطبوطه المتآمر ضد مصر والعرب والمسلمين.

وعندما تستبعد اللجنة مرشحا عثرت على أدلة تربطه بمعسكر «الأعداء» (حسب خطابه الانتخابي) يشكك في نزاهة القضاء (كادعاء مرشح إخوانجي امتلاكه دليل تآمر القضاة مع عسكر المجلس الأعلى للقوات المسلحة.. فهل كان يتنصت على تليفون القاضي، أم زودته مخابرات الغرب الاستعماري بوسائل تجسس متقدمة؟).

والآخر ينزل بأعوانه إلى الشوارع مسقطا تعبير «صناديق الاقتراع» من خطابه متوعدا بالاستيلاء على الرئاسة بالمبايعة.

هل هي مبايعة القرن السابع بالحناجر، أم انتخابات ديمقراطية بوسائل القرن الـ21؟

أطرف الملاحظات مؤتمر إطلاق حملة مرشح الإخوان (ما زلت أجاهد لأكتم ضحكاتي من إدراج كلمة «الحرية» في تسمية الحزب) دعوا إليه المراسلين الغربيين الذين انبهروا بدقة التنظيم وحسن هندام المشرفين بالبدل والكرافتات الأنيقة. ورغم خلو شوارع البلد من القضبان اشترى المراسلون تروماي «وضوح اتجاه الإسلاميين للتطور نحو الديمقراطية والحريات المدنية». الطريف إخفاقهم بوضع ما تضمنته تقاريرهم في سياق مناقضتها لأهم أسس الديمقراطية: حرية الفرد في الاختيار.

أرغموا الحاضرين على فصل النساء في ركن بعيد عن الرجال بدلا من ترك الحرية للضيوف للجلوس بجانب مرافق من الجنس الآخر.

لم يعزف السلام الوطني أو موسيقى محايدة المزاج، الحديث مباشرة بلا مقدمة مؤثرات صوتية، الذين جاءوا للتعرف على البرنامج الانتخابي وليس درسا دينيا يبدأ بتلاوة آيات منتقاة. هذا لا يستبعد غير المسلمين فحسب بل أغلبية المسلمين غير المسيسين الذين لا يرتاحون لآيات منتقاة عن الحرب خارج سياقها التاريخي، لا تلائم مرحلة بناء الديمقراطية سلميا.

يبدو أن التشويش والاختلاط الذي قوض به جهلاء الأمة وعيها الجماعي، أصبح وباء لم يخترع العلم مصلا واقيا منه بعد، فأصابت العدوى مراسلين لم تقهم منها ديمقراطية بلدانهم، وحالت الحمى دون تفريقهم بين مقدمة الجسم ومؤخرته. فالمراسلون أنفسهم مقيمون في مصر وبلدان عربية لسنوات طويلة.. ومن عاشر القوم.. حسب التعبير المصري.

كلما تمعنت في الحالة المصرية يتضاءل الأمل (بدأ بحجم ثمرة الأفوكادو والآن في حجم بذرة التفاح) في إمكانية الوعي الجماعي قراءة البوصلة.

لا شك أن العطش والجفاف يتطلب سرعة حفر بئر. لكن قبل الهرولة نحو آلات الحفر، ألا يتطلب الأمر توكيل الجيولوجيين لاستخدام أحدث تكنولوجيا القياس للتعرف على ما تحت التربة؟! أهو ماء صالح للشرب، أم مخزن مجار من عصور قديمة؟!

يحتج ثوار التحرير، ليبراليون وعلمانيون، برفض شخصيات كأحمد شفيق، أو عمر سليمان لأنهم من «الفلول» لشغلهم مناصب مسؤولة في نظام مبارك.

وباستثناء انتخاب تلميذ يعتلي المثالية بمصروف بابا، لن يجد المصريون اليوم مرشحا بمؤهلات وخبرة تفيد الأمة، لم يكن قد شغل منصبا زوده بهذه الخبرة في عهد مبارك. ولا يستثنى من ذلك الدكتور محمد البرادعي نفسه (أمل الديمقراطيين المصريين)، فقد كان سفيرا يدافع عن مصالح مصر ويلتزم بتنفيذ سياسة دولة يرأسها مبارك.

الدكتور البرادعي ينوي إطلاق حزب جديد، فنرجو ألا يكرر فشل «الجمعية الوطنية للتغيير» (كانت توفيقا للأمزجة بين تيارات وآيديولوجيات متضاربة مما يصلح لعضوية ناد اجتماعي لا حزب جاد). فليحدد برنامج الحزب وفق المبادئ التي يؤمن بها (والالتزام بها شرط العضوية) كدولة القانون الدستورية المدنية الفاصلة للسلطات والمستقلة عن المؤسسة الدينية.

الثوار في دعمهم أو رفضهم لمرشحين يناقضون منطق خياراتهم. يرفضون كل من ركب قطار مبارك، ولو كوسيلة مواصلات، رغم عدم إدانتهم قضائيا، ولم تثبت الأدلة (لا الشائعات) ارتكابهم جرائم تخالف القوانين المصرية. وفي الوقت نفسه يدعمون خريجي سجون بأحكام قضائية في جرائم إرهابية. ويدعمون مرشحين يؤمنون إيمانا أعمى بآيديولوجية الإرهاب والكراهية، كمرشح يقسم بأغلظ الأيمان بطلاقه من جماعة الإخوان، وفي خطبه العامة يمجد مؤسسي الجماعة وأصحاب نظرية الكراهية والإرهاب الدائم، التي انتهجتها قاعدة بن لادن وأيمن الظواهري أسلوبا لتدمير العالم وإهلاك الآلاف. كما يدعم الثوار مرشحي الحنجورية الناصرية، ولا شك سيحتاج الشعب بلاغتهم الثورية لتكريس جهود إزالة آثار العدوان بعد «النكسة» المتوقعة عندما تقود مصر معركة إعادة كرامة «الأمة العربية» التي أهدرت بمعاهدة السلام مع إسرائيل والتبعية لأميركا!

ويستمر عطشى مصر في الحفر الشاق قبل إخطار الجيولوجيين لفحص التربة التحتية.