«ديمقراطية» بشريط أسود!

TT

النخب العربية التي ناضلت وما زالت من أجل «شيء من الديمقراطية في الفضاء العربي»، لعل وعسى أن نخرج من المأزق التاريخي، يصيبها اكتئاب من جراء ما تشاهد من نتائج الديمقراطية على امتداد ساحة العرب اليوم.

أعرف أن البعض لن يروقه هذا التعبير الافتتاحي الشامل، فلا يزال هناك من المتحمسين من يعتقد أن «قليلا من الديمقراطية» خير من انعدامها، إلا أنني من تلك المجموعة التي تقول إن الأمور يحكم عليها بنتائجها، فالديمقراطية لا بد أن تحدها شروط وإلا انقلبت إلى ضدها، وأطلب من المتحمسين التأني قليلا من أجل توضيح ما أقصد بالأمثلة: فما هو المكسب الذي يأخذه المريض من دواء لا يحقق الشفاء؟.. هو فقط يظل يتناول الدواء لعله في يوم من الأيام يشفى حتى يلقى حتفه!.. كذلك الممارسة الديمقراطية العربية، اسم على غير مسمى، وممارسة في ظاهرها الرحمة وفي باطنها يستشري القمع ويتسيد التخلف!

أكثر من مشهد «ديمقراطي» تثير الهلع حولنا، وسوف أبدا بما يحدث في الكويت، فالأسبوع الماضي وصل السباب والشتائم في البرلمان الكويتي إلى درجة «الأب والأم والأخت» في مشهد مأساوي يندى له الجبين، حتى الصابرون والمتسامحون قد استثيروا من جراء تلك اللغة المتدنية التي تم تبادلها بين بعضهم وبعض، أمام الناس جميعا ووسائل الإعلام، مما حدا بأحد أركان رجالات الكويت المجربين والتاريخيين، وهو الدكتور أحمد الخطيب، أن ينشر الأربعاء الماضي مقالا في «الطليعة»، الصحيفة الناطقة باسم الموطنية الكويتية، فيقول «ما نشهده هو حرب كلامية دونية لم تكن تعرفها الكويت في تاريخها الطويل، وصراع طائفي يقوده طرفان يعيشان في عصر ما قبل التاريخ»، وكان ذلك جزءا من المقال الطويل الغاضب الذي فاض بالاشمئزاز، إلى حد أن تناقله الكويتيون من طائفة الأغلبية الصامتة بين بعضهم بعضا في وسائل الاتصال الجديدة، على أنه يمثل آراءهم، حيث فاض بهم الحلم وتقطعت حبال الصبر.

مجلس الأمة الكويتي الرابع عشر جرى انتخابه قبل أقل من ستة أشهر (فبراير/ شباط 2012)، وتنافس على مقاعده الخمسين أربعمائة مرشح للحصول على أصوات في مجملها أكثر قليلا من أربعمائة ألف ناخب، أي أن الجسم الانتخابي الصغير نسبيا في مجتمع علاقاته تقريبا علاقات الوجه للوجه، الشخصية والمباشرة، يحدث كل هذا التنافر المقزز باسم الديمقراطية وتحت سمائها. في هذا العمر القصير من مدة المجلس الرابع عشر، وبعد مجموعة أزمات حاكمة مرت على البلاد، بدا المجلس وقد تحول إلى «شبه محاكم تفتيش» في استحضار وزراء ورجالات دولة وكبار الموظفين للتحقيق معهم تباعا في هذه أو تلك من التهم، التي جرت العادة في أي مجتمع ديمقراطي أن يكون مكانها – إن صحت - النيابة العامة وساحات القضاء. هذا عطفا على مجموعة من الاقتراحات الشعبوية من المجلس، كمثال تعديل مادة في الدستور (الصعب التعديل)، ليس كما توقع الآباء المؤسسون من أجل حريات أوسع، بل كي تمرر كل القوانين (حسب الاقتراح) إلى جهة تؤكد أو تنفي علاقة تلك القوانين بـ«الشريعة» في فضاء قانوني – جميعه تقريبا - متوافق مع مقاصد الشريعة كما يفهمها المستنيرون من أهل العلم! والاقتراحات بقوانين معظمها تصب في مسار يمكن أن يعرف بتضييق الحريات، أكثر منه بتوسيعها، وهو أمر مضاد تماما لمقاصد الديمقراطية الحديثة.

هذا المشهد استفز رجلا تاريخيا مثل أحمد الخطيب للقول في مقاله سابق الذكر بعبارات لا تنقصها الصراحة مغموسة بألم وطني عميق «في هذا المشهد المأزوم تنبري حثالة من المهرجين الوقحين المأجورين لقرع الطبول وإطلاق أهازيج التأزيم».. وهذا هو المشهد الذي تفرضه القوى المتسيدة في الانتخابات الأخيرة، ليس فقط بالتضييق على الحريات وكتم أنفاس كل من تسول له نفسه التفوه برأي مخالف، ولكن أيضا بإشعال الحرائق الوطنية في عمل لا قاع له ولا سقف من البعد عن مصالح المواطنين الحقيقية في تعليم أفضل وتطبيب أفضل وقوانين عادلة وفصل بين السلطات التي لا يستقر مجتمع ويتقدم من دونها، ضاربين عرض الحائط بمجموعة ملفات يتلهف المواطن الكويتي الالتفات إليها.

على مقلب آخر هناك مشهد لا يزال يثير الرثاء في الممارسة الديمقراطية، ففي الأردن الذي يئن مواطنوه من ضيق الحال ويتعثر اقتصاده بشكل ملموس، يلتئم مجلس منتخب بمعظم ممثلي الشعب ليقروا بالإجماع، عدا ثلاثة أشخاص شجعان، أن يصبح للأعضاء مرتب تقاعدي مدى الحياة في ما سموه بالتقاعد المبكر، وهي وصفة ناجحة لإغاظة الناس وتكفيرهم بالحياة التمثيلية، فهم يزيدون الشعب توترا، ويثيرونه غيظا، خاصة إن قارن الناخب الأردني الفطن ما حدث عنده بما حدث قبل أشهر بعيد انتخاب الائتلاف المحافظ والليبرالي في انتخابات بريطانيا الأخيرة، حيث قررت الحكومة الجديدة تخفيض مرتبات الوزراء ومن في حكمهم 10 في المائة استجابة للضائقة الاقتصادية التي يعاني منها الشعب البريطاني!

أما ثالثة الأثافي فهي ما يحدث في مصر، فعلى الرغم من قصر مدة المجلس الجديد الذي سمى نفسه بمجلس الثورة، فها هي مشاريع القوانين تتهافت عليه من أجل تقليص الحريات، التي قامت الثورة كما علمنا من أجل توسيعها، وآخرها هو اقتراح تقليص الحريات الإعلامية الذي يطالب به بعض أعضاء مجلس «الثورة»، في وقت لم يستطع فيه وزير الإعلام في عهد الرئيس السابق مبارك (أنس الفقي) أن يمرره!.. بخلاف عدد من مشاريع القوانين (المضحكة المبكية) التي تستهدف تقييد الرأي الآخر بقسوة غير مسبوقة، ملحقة بالتخبط التشريعي من أمثال تشكيل لجنة كتابة الدستور المتسرعة والاستحواذية، أو قانون العزل السياسي، ويبدو في الجراب التشريعي المصري الكثير على هذا المنوال الذي تتقهقر معه مصر عشرات السنين.. ويضاف إلى الحالمين بعقد اجتماعي جديد مدني وحديث في مصر كابوس اسمه الفساد التشريعي وتفصيل القوانين.

وأنتهي بالقول إنه يبدو أن الممارسة العربية لما يسمى افتراضا بالديمقراطية في الفضاء العربي تسير إلى منحدر يذكرنا بقسوة بديمقراطية موسوليني وأدولف هتلر في الثلث الثاني من القرن العشرين: انتخبوني أتسيد عليكم وأسوقكم إلى عذاب لم تعرفوه من قبل، هو التعسف السرمدي ولكن باسم النسخة العربية من «الديمقراطية».

آخر الكلام:

أرسل لي صديق إعلانا صادرا عن السلطة العثمانية قبل ثلاثمائة وخمسين سنة تقريبا تطلب فيه إماما للمسجد الكبير في إسطنبول.. من شروط الإعلان أن يكون ملما بالعربية والفارسية بجانب التركية بالإضافة إلى تفقهه بالقرآن الكريم وبالتوراة والإنجيل!.. ترى هل نحن نتقدم أم نتخلف؟!